ذكر فتنته بزوجة  أوريا   
ثم إن الله ابتلاه بزوجة  أوريا     . 
وكان سبب ذلك أنه قد قسم زمانه ثلاثة أيام ، يوما يقضي فيه بين الناس ، ويوما يخلو فيه للعبادة ، ويوما يخلو فيه مع نسائه ، وكان له تسع وتسعون امرأة ، وكان يحسد فضل إبراهيم  ، وإسحاق  ، ويعقوب  ، فقال : أي ربي ، أرى الخير قد ذهب به آبائي فأعطني مثل ما أعطيتهم ! فأوحى الله إليه : إن آباءك ابتلوا ببلاء فصبروا ، ابتلي إبراهيم  بذبح ابنه ، وابتلي إسحاق  بذهاب بصره ، وابتلي يعقوب  بحزنه على يوسف    . فقال : رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم ، وأعطني بمثل ما أعطيتهم . فأوحى الله إليه : إنك مبتلى فاحترس . 
 [ ص: 196 ] وقيل : كان سبب البلية أنه حدث نفسه أنه يطيق أن يقطع يوما بغير مقارفة سوء ، فلما كان اليوم الذي يخلو فيه للعبادة عزم على أن يقطع ذلك اليوم بغير سوء وأغلق بابه ، وأقبل على العبادة ، فإذا هو بحمامة من ذهب فيها كل لون حسن قد وقعت بين يديه ، فأهوى ليأخذها ، فطارت غير بعيد من غير أن ييأس من أخذها ، فما زال يتبعها وهي تفر منه حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه حسنها ، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها فاستترت به ، فزاده ذلك رغبة ، فسأل عنها ، فأخبر أن زوجها بثغر كذا فبعث إلى صاحب الثغر بأن يقدم  أوريا  بين يدي التابوت في الحرب ، وكان كل من يتقدم بين يدي التابوت لا ينهزم ، إما أن يظفر أو يقتل ، ففعل ذلك به فقتل . 
وقيل : إن داود  لما نظر إلى المرأة فأعجبته سأل عن زوجها ، فقيل : إنه في جيش كذا ، فكتب إلى صاحب الجيش أن يبعثه في سرية إلى عدو كذا ، ففعل ذلك ، ففتح الله عليه ، فكتب إلى داود  فأمر داود  أن يرسل أيضا إلى عدو كذا أشد منه ، ففعل ، فظفر ، فأمر داود  أن يرسل إلى عدو ثالث ، ففعل ، فقتل  أوريا  في المرة الثالثة ، فلما قتل تزوج داود  امرأته ، وهي أم سليمان  في قول  قتادة     . 
وقيل : إن خطيئة داود  كانت أنه لما بلغه حسن امرأة  أوريا  تمنى أن تكون له حلالا ، فاتفق أن  أوريا  سار إلى الجهاد فقتل فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره ، فبينما داود  في المحراب يوم عبادته وقد أغلق الباب إذ دخل عليه ملكان أرسلهما الله إليه من غير الباب ، فراعه ذلك فقالا : لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق  إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب  ، أي قهرني ، وأخذ نعجتي ، فقال للآخر : ما تقول ؟ قال : صدق ، إني أردت أن أكمل نعاجي مائة فأخذت نعجته . فقال داود    : إذا لا ندعك   [ ص: 197 ] وذاك ، فقال الملك : ما أنت بقادر عليه . قال داود    : فإن لم ترد عليه ماله ضربنا منك هذا وهذا ، وأومأ إلى أنفه وجبهته . قال : يا داود  أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن  لأوريا  إلا امرأة واحدة فلم تزل به حتى قتل وتزوجت امرأته . ثم غابا عنه . 
فعرف ما ابتلي به وما وقع فيه ، فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها ، وأدام البكاء حتى نبت من دموعه عشب غطى رأسه ، ثم نادى : يا رب ، قرح الجبين ، وجمدت العين ، وداود  لم يرجع إليه في خطيئته بشيء . فنودي : أجائع فتطعم ، أم مريض فتشفى ، أم مظلوم فتنصر ؟ قال : فنحب نحبة هاج ما نبت ، فعند ذلك قبل الله توبته ، وأوحى إليه : ارفع رأسك فقد غفرت لك . قال : يا رب ، كيف أعلم أنك قد غفرت لي ؟ وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء إذا جاء  أوريا  يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه تشخب أوداجه دما قبل عرشك يقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني . فأوحى الله إليه : إذا كان ذلك دعوته وأستوهبك منه فيهبك لي فأهبه بذلك الجنة . قال : يا رب الآن علمت أنك قد غفرت لي . 
قال : فما استطاع داود  بعدها أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض . ونقش خطيئته في يده ، فكان إذا رآها اضطربت يده ، وكان يؤتى بالشراب ليشربه فكان يشرب نصفه أو ثلثيه فيذكر خطيئته فينتحب حتى تكاد مفاصله يزول بعضها من بعض ، ثم يملأ الإناء من دموعه . وكان يقال : إن دمعة داود  تعدل دموع الخلائق ، وهو يجيء يوم القيامة وخطيئته مكتوبة في كفه فيقول : يا رب ، ذنبي قدمني ، فيقدم ، فلا يأمن فيقول : يا رب ، أخرني ، فلا يأمن . 
وأزالت الخطيئة طاعة داود  عن بني إسرائيل  واستخفوا بأمره ، ووثب عليه ابن له يقال له  إيشى  ، وأمه ابنة  طالوت  فدعا إلى نفسه ، فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل  ، فلما تاب الله على داود  اجتمع إليه طائفة من الناس فحارب ابنه حتى هزمه   [ ص: 198 ] ووجه إليه بعض قواده وأمره بالرفق به والتلطف لعله يأسره ولا يقتله ، وطلبه القائد وهو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله ، فحزن عليه داود  حزنا شديدا وتنكر لذلك القائد . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					