[ ص: 455 ]   77 
ثم دخلت سنة سبع وسبعين 
ذكر محاربة  شبيب  عتاب بن ورقاء  وزهرة بن حوية  وقتلهما  
وفي هذه السنة قتل  شبيب  عتاب بن ورقاء الرياحي  وزهرة بن حوية     . 
وسبب ذلك أن  شبيبا  لما هزم الجيش الذي كان وجهه  الحجاج  مع   عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث  ، وقتل  عثمان بن قطن  ، كان ذلك في حر شديد ، وأتى  شبيب  ماه بهراذان  فصيف بها ثلاثة أشهر ، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا ، وممن كان  الحجاج  يطلبهم بمال أو تبعات . فلما ذهب الحر خرج  شبيب  في نحو ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن  ، وعليها  مطرف بن المغيرة بن شعبة  ، فجاء حتى نزل قناطر   حذيفة بن اليمان  ، فكتب عظيم بابل  مهروذ  إلى  الحجاج  بذلك ، فلما قرأ الكتاب قام في الناس فقال : أيها الناس ، لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم ، أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم ، فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم . 
فقام إليه الناس من كل جانب ومكان فقالوا : نحن نقاتلهم ونعتب الأمير ، فليندبنا الأمير إليهم . وقام إليه  زهرة بن حوية  ، وهو شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده ، فقال [ له ] : أصلح الله الأمير ، إنما تبعث إليهم الناس متقطعين ، فاستنفر الناس إليهم كافة ، وابعث إليهم رجلا شجاعا مجربا ممن يرى الفرار هضما وعارا ، والصبر مجدا وكرما . فقال  الحجاج     : فأنت ذلك الرجل ، فاخرج . فقال  زهرة     : أصلح الله الأمير ، إنما يصلح الرجل يحمل الدرع والرمح ، ويهز السيف ، ويثبت على [ متن ] الفرس ، وأنا لا أطيق من هذا شيئا ، وقد ضعف بصري [ وضعفت ] ، ولكن أخرجني مع الأمير في   [ ص: 456 ] الناس ، فأكون معه وأشير عليه برأيي . فقال  الحجاج     : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله في أول أمرك وآخره ، فقد نصحت . ثم قال : أيها الناس ، سيروا بأجمعكم كافة . 
فانصرف الناس يتجهزون ولا يدرون من أميرهم . وكتب  الحجاج  إلى  عبد الملك  يخبره أن  شبيبا  قد شارف المدائن  وأنه يريد الكوفة  ، وقد عجز أهل الكوفة   عن قتاله في مواطن كثيرة ، [ في كلها ] يقتل أمراءهم ويهزم جنودهم ، ويطلب إليه أن يبعث إليه جندا من الشام  ، يقاتلون الخوارج  ويأكلون البلاد . 
فلما أتى الكتاب بعث إليه  عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي  في أربعة آلاف ،  وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي  في ألفين . فبعث  الحجاج  إلى  عتاب بن ورقاء الرياحي  ، وهو مع  المهلب  ، يستدعيه ، وكان  عتاب  قد كتب إلى  الحجاج  يشكو من  المهلب  ، ويسأله أن يضمه إليه ; لأن  عتابا  طلب من  المهلب  أن يرزق أهل الكوفة   الذين معه من مال فارس  ، فأبى عليه ، وجرت بينهما منافرة ، فكادت تؤدي إلى الحرب ، فدخل  المغيرة بن المهلب  بينهما فأصلح الأمر ، وألزم أباه برزق أهل الكوفة   ، فأجابه إلى ذلك ، وكتب يشكو منه . 
فلما ورد كتابه سر  الحجاج  بذلك واستدعاه ، ثم جمع  الحجاج  أهل الكوفة   واستشارهم فيمن يوليه أمر الجيش ، فقالوا : رأيك أفضل . فقال : قد بعثت إلى  عتاب  ، وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة . فقال  زهرة     : أيها الأمير ، رميتهم بحجرهم ، والله لا نرجع إليك حتى نظفر أو نقتل . 
وقال له  قبيصة بن والق     : إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام  ، وأن أهل الكوفة   قد هزموا ، وهان عليهم الفرار ، فقلوبهم كأنها ليست فيهم ، فإن رأيت أن تبعث إلى أهل الشام   ليأخذوا حذرهم ، ولا يبيتوا إلا وهم محتاطون ، فإنك تحارب حولا قلبا ظعانا رحالا ، وقد جهزت إليهم أهل الكوفة   ، ولست واثقا بهم كل الثقة ، وإن  شبيبا  بينا هو في أرض إذا هو في أخرى ، ولا آمن أن يأتي أهل الشام   وهم آمنون ، فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق    . 
قال له : لله أبوك ، ما أحسن ما أشرت به ! وأرسل إلى الشام  يحذرهم ، ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر    . ففعلوا . 
وقدم  عتاب بن ورقاء  تلك الليلة ، فبعثه  الحجاج  على ذلك الجيش ، فعسكر بحمام   [ ص: 457 ] أعين  ، وأقبل  شبيب  حتى انتهى إلى كلواذى  ، فقطع فيها دجلة  ، ( ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير  الدنيا ، فصار بينه وبين  مطرف     [ جسر ] دجلة    ) ، وقطع  مطرف  الجسر وبعث إلى  شبيب     : أن ابعث إلي رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن ، وأنظر فيما يدعون إليه . فبعث إليه  قعنب بن سويد  والمحلل  وغيرهما ، وأخذ منه رهائن إلى أن يعودوا ، فأقاموا عنده أربعة أيام ، ثم لم يتفقوا على شيء . فلما لم يتبعه  مطرف  تهيأ للمسير إلى  عتاب  وقال لأصحابه : إني كنت عازما أن آتي أهل الشام   جريدة ، وألقاهم على غرة قبل أن يتصلوا بأمير مثل  الحجاج  ، ومصر  مثل الكوفة  ، فثبطني عنهم  مطرف  ، وقد جاءتني عيوني ، فأخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر  ، فهم الآن قد شارفوا الكوفة  ، وقد أخبروني أن  عتابا  ومن معه بالبصرة  ، فما أقرب ما بيننا وبينه ، فتيسروا للمسير إلى  عتاب     . 
وخاف  مطرف بن المغيرة  أن يبلغ خبره مع  شبيب  إلى  الحجاج  ، فخرج نحو الجبال . فأرسل  شبيب  أخاه مصادا إلى المدائن  وعقد الجسر ، وأقبل  عتاب  إليه حتى نزل بسوق حكمة ، وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفا ، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف ، فكانوا خمسين ألفا ، وكان  الحجاج  قد قال لهم حين ساروا : إن للسائر المجتهد الكرامة والأثرة ، وللهارب الهوان والجفوة ، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذه المواطن كفعلكم في المواطن الأخر لأولينكم كنفا خشنا ، ولأعركنكم بكلكل ثقيل . 
فلما بلغ  عتاب  سوق حكمة أتاه  شبيب  ، وكان أصحابه بالمدائن  ألف رجل ، فحثهم على القتال ، وسار بهم ، فتخلف عنه بعضهم ، ثم صلى الظهر بساباط  ، وصلى العصر وسار حتى أشرف على  عتاب  وعسكره ، فلما رآهم نزل فصلى المغرب ، وكان  عتاب  قد عبأ أصحابه ، فجعل في الميمنة  محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس  ، وقال : يا ابن أخي ، إنك شريف صابر . فقال : والله لأصبرن ما ثبت معي إنسان . وقال  لقبيصة بن والق الثعلبي     : اكفني الميسرة . فقال : أنا شيخ كبير ، لا أستطيع القيام إلا أن أقام . فجعل عليها  نعيم بن عليم  ، وبعث  حنظلة بن الحارث اليربوعي  ، وهو ابن عمه وشيخ أهل بيته ، على الرجالة ، وصفهم ثلاثة صفوف : صف فيهم أصحاب السيوف ، وصف فيهم أصحاب الرماح ، وصف فيهم الرماة ، ثم سار في الناس يحرضهم على القتال ويقص عليهم ، ثم قال : أين القصاص ؟ فلم يجبه أحد . ثم قال : أين من يروي شعر  عنترة  ؟ فلم يجبه أحد . فقال : إنا لله ، كأني بكم قد فررتم عن  عتاب بن ورقاء  ، وتركتموه تسفي في استه الريح ! 
 [ ص: 458 ] ثم أقبل حتى جلس في القلب ومعه  زهرة بن حوية  جالس ،   وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث  ،  وأبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي     . وأقبل  شبيب  وهو في ستمائة وقد تخلف عنه من أصحابه أربعمائة ، فقال : لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا ، فجعلسويد بن سليم  في مائتين في الميسرة ، وجعل  المحلل بن وائل  في مائتين في القلب ، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر ، فناداهم : لمن هذه الرايات ؟ فقالوا : رايات  لربيعة     . قال : طالما نصرت الحق ، وطالما نصرت الباطل ، والله لأجاهدنكم محتسبا ، أنا  شبيب  ، لا حكم إلا لله ، للحكم ، اثبتوا إن شئتم ! ثم حمل عليهم ففضهم ، فثبت أصحاب رايات  قبيصة بن والق  ،  وعبيد بن الحليس  ،  ونعيم بن عليم  فقتلوا ، وانهزمت الميسرة كلها ، ونادى الناس من بني ثعلبة    : قتل  قبيصة     ! وقال  شبيب     : قتلتموه ، ومثله كما قال الله - تعالى - : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها    . ثم وقف عليه وقال : ويحك لو ثبت على إسلامك الأول سعدت ! وقال لأصحابه : إن هذا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم ، ثم جاء يقاتلكم مع الفسقة . 
ثم إن  شبيبا  حمل من الميسرة على  عتاب  ، وحمل  سويد بن سليم  على الميمنة ، وعليهما  محمد بن عبد الرحمن  ، فقاتلهم في رجال من تميم  وهمدان  ، فما زالوا كذلك حتى قيل لهم قتل  عتاب  ، فانفضوا . 
ولم يزل  عتاب  جالسا على طنفسة  في القلب ومعه  زهرة بن حوية  إذ غشيهم  شبيب  ، فقال له  عتاب     : يا  زهرة  ، هذا يوم كثر فيه العدد ، وقل فيه الغناء ، والهفي على خمسمائة فارس من تميم  من جميع الناس ، ألا صابر لعدوه ؟ ألا مواس بنفسه ؟ فانفضوا عنه وتركوه ، فقال [ له ]  زهرة     : أحسنت يا  عتاب  ، فعلت فعلا [ لا يفعله ] مثلك . أبشر ، فإني أرجو أن يكون الله - جل ثناؤه - قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا . 
فلما دنا منه  شبيب  وثب في عصابة قليلة صبرت معه وقد ذهب الناس ، فقيل له : إن   عبد الرحمن بن الأشعث  قد هرب وتبعه ناس كثير . فقال : ما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع . ثم قاتلهم ساعة ، فرآه رجل من أصحاب  شبيب  يقال له  عامر بن عمر التغلبي  ، فحمل عليه فطعنه ، ووطئت الخيل  زهرة بن حوية  ، فأخذ يذب بسيفه لا يستطيع أن يقوم ،   [ ص: 459 ] فجاءه  الفضل بن عامر الشيباني  فقتله ، فانتهى إليه  شبيب  فرآه صريعا فعرفه ، فقال : هذا  زهرة بن حوية  ، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك ، وعظم فيه غناؤك ! ولرب خيل للمشركين هزمتها ، وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها ! ثم كان في علم الله أنك تقتل ناصرا للظالمين . وتوجع له . فقال له رجل من أصحابه : إنك لتتوجع لرجل كافر . فقال : إنك لست بأعرف بضلالتهم مني ، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف ، ما لو ثبتوا عليه لكانوا إخواننا . 
فاستمسك  شبيب  من أهل العسكر والناس ، فقال : ارفعوا السيف ، ودعاهم إلى البيعة ، فبايعه الناس وهربوا من تحت ليلتهم ، وحوى ما في العسكر ، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن    . وأقام  شبيب  بعد الوقعة ببيت قرة  يومين ، ثم سار نحو الكوفة  ، فنزل بسورا  وقتل عاملها . 
وكان  سفيان بن الأبرد  وعسكر الشام  قد دخلوا الكوفة  ، فشدوا ظهر الحجاج واستغنى به وبعسكره عن أهل الكوفة   ، فقام على المنبر فقال : يا أهل الكوفة   ، لا أعز الله من أراد بكم العز ، ولا نصر من أراد بكم النصر ، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا ، انزلوا بالحيرة  مع اليهود  والنصارى  ، ولا يقاتل معنا إلا من لم يشهد قتال  عتاب     . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					