ذكر وقعة كمرجه  
ثم إن  خاقان  حصر كمرجه  ، وهي من أعظم بلدان خراسان  ، وبها جمع من المسلمين ، ومع  خاقان  أهل فرغانة   وأفشينة  ونسف  وطوائف من أهل بخارى  ، فأغلق المسلمون الباب ، وقطعوا القنطرة التي على الخندق . فأتاهم  ابن خسرو بن يزدجرد  ، فقال : يا معشر العرب لم تقتلون أنفسكم ؟ أنا الذي جئت  بخاقان  ليرد علي مملكتي ، وأنا آخذ لكم الأمان . فشتموه . وأتاهم  بازغرى  في مائتين ، وكان داهية ، وكان  خاقان  لا يخالفه ، فدنا من المسلمين بأمان ، وقال : لينزل إلي رجل منكم أكلمه بما أرسلني به  خاقان     . فأحدروا  يزيد بن سعيد الباهلي  ، وكان يفهم بالتركية  يسيرا ، فقال له : إن  خاقان  أرسلني ، وهو يقول إني أجعل من عطاؤه منكم ستمائة ألفا ، ومن عطاؤه ثلاثمائة ستمائة ، وهو يحسن إليكم . فقال [ له ]  يزيد     : كيف تكون العرب وهم ذئاب مع الترك  وهم شاء ! لا يكون بيننا وبينهم صلح . فغضب  بازغرى  ، وكان معه تركيان ، فقالا : ألا تضرب عنقه ؟ فقال : إنه نزل بأمان . وفهم  يزيد  ما قالا ، فخاف ، فقال : بلى إنما تجعلوننا نصفين ، فيكون نصفنا مع أثقالنا ، ويسير النصف معكم ، فإن ظفرتم فنحن معكم ، وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن الصغد    . فرضوا بذلك ، وقال : أعرض على أصحابي هذا . وصعد في الحبل ، فلما صار على السور نادى : يا أهل كمرجه  ، اجتمعوا ، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان ، فما ترون ؟ قالوا : لا نجيب ولا نرضى . قال : يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين . قالوا : نموت قبل ذلك . فرد  بازغرى     . 
ثم أمر  خاقان  بقطع الخندق ، فجعلوا يلقون الحطب الرطب ، ويلقي المسلمون الحطب اليابس ، حتى سوي الخندق ، فأشعلوا فيه النيران ، وهاجت ريح شديدة صنعا من الله ، فاحترق الحطب ، وكانوا جمعوه في سبعة أيام ، في ساعة واحدة . 
ثم فرق  خاقان  على الترك  أغناما ، وأمرهم أن يأكلوا لحمها ، ويحشوا جلودها ترابا ، ويكبسوا خندقها ، ففعلوا ذلك ، فأرسل الله سحابة فمطرت مطرا شديدا ، فاحتمل السيل ما في الخندق ، وألقاه في النهر الأعظم . ورماهم المسلمون بالسهام ، فأصابت  بازغرى   [ ص: 192 ] نشابة في سرته فمات من ليلته ، فدخل عليهم بموته أمر عظيم . فلما امتد النهار جاءوا بالأسرى التي عندهم ، وهم مائة ، فيهم  أبو العوجاء العتكي  ،  والحجاج بن حميد النضري  ، فقتلوهم ورموا برأس  الحجاج  ، وكان عند المسلمين مائتان من أولاد المشركين رهائن ، فقتلوهم واستماتوا ، واشتد القتال . 
ولم يزل أهل كمرجه  كذلك حتى أقبلت جنود العرب فنزلت فرغانة  ، فعير  خاقان  أهل الصغد  ، وفرغانة  ، والشاش  ، والدهاقين  ، وقال : زعمتم أن في هذه خمسين حمارا ، وأنا نفتحها في خمسة أيام ، فصارت الخمسة شهرين . وأمرهم بالرحيل وشتمهم ، فقالوا : ما ندع جهدا ، فأحضرنا غدا ، وانظر ما نصنع . فلما كان الغد وقف  خاقان  ، وتقدم  الطاربند  ، فقاتل المسلمين ، فقتل منهم ثمانية ، وجاء حتى وقف على ثلمة إلى جنب بيت فيه مريض من تميم  ، فرماه التميمي بكلوب ، فتعلق بدرعه ، ثم نادى النساء والصبيان ، فجذبوه فسقط لوجهه ، ورماه رجل بحجر ، فأصاب أصل أذنه ، فصرع ، وطعنه آخر ، فقتله ، فاشتد قتله على الترك    . 
وأرسل  خاقان  إلى المسلمين : إنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة نحاصرها دون افتتاحها ، أو ترحلهم عنها . فقالوا له : ليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل ، فاصنعوا ما بدا لكم . فأعطاهم الترك  الأمان أن يرحل  خاقان  عنهم ويرحلوا هم ( عنها إلى سمرقند  أو الدبوسية  ، فرأى أهل كمرجه  ما هم فيه من الحصار ، فأجابوا إلى ذلك ، فأخذوا من الترك  رهائن أن لا يعرضوا لهم ، وطلبوا أن  كورصول التركي  يكون معهم في جماعة ) ليمنعهم إلى الدبوسية  ، فسلموا إليهم الرهائن وأخذوا أيضا هم من المسلمين رهائن ، وارتحل  خاقان  عنهم ، ثم رحلوا هم بعده ، فقال الأتراك الذين مع  كورصول     : إن بالدبوسية  عشرة آلاف مقاتل ، ولا نأمن أن يخرجوا علينا . فقال لهم المسلمون : إن قاتلوكم قاتلناهم معكم . 
فساروا ، فلما صار بينهم وبين الدبوسية  فرسخ نظر أهلها إلى الفرسان فظنوا أن كمرجه  فتحت ، وأن  خاقان  قد قصدهم ، فتأهبوا للحرب ، فأرسل المسلمون إليهم يخبرونهم خبرهم ، فالتقوهم وحملوا من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحا . فلما بلغ المسلمون الدبوسية  أرسلوا إلى من عنده الرهائن يعلمونه بوصولهم ، ويأمرونه بإطلاقهم ، فجعلت العرب تطلق رجلا من الرهن والترك  رجلا ، حتى بقي  سباع بن   [ ص: 193 ] النعمان  مع الترك  ، ورجل من الترك  عند العرب ، وجعل كل فريق يخاف من صاحبه الغدر ، فقال  سباع     : خلوا رهينة الترك  ، فخلوه ، وبقي  سباع  مع الترك  ، فقال له  كورصول     : ما حملك على هذا ؟ قال : وثقت بك وقلت : ترفع نفسك عن الغدر ، فوصله  كورصول  وأعطاه سلاحه وبرذونا وأطلقه . 
وكانت مدة حصار كمرجه  ثمانية وخمسين يوما ، فيقال : إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يوما . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					