[ ص: 685 ] ذكر أبي طالب وخديجة وفاة وعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه على العرب
توفي أبو طالب وخديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروجهم من الشعب ، فتوفي أبو طالب في شوال أو في ذي القعدة ، وعمره بضع وثمانون سنة ، وكانت ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوما ، وقيل : كان بينهما خمسة وخمسون يوما ، وقيل : ثلاثة أيام ، فعظمت المصيبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهلاكهما ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : خديجة ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ، وذلك أن قريشا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته ، حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه ، وحتى إن بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج ذلك على العود ويقول : أي جوار هذا يا بني عبد مناف ! ثم يلقيه بالطريق .
فلما اشتد عليه الأمر بعد موت أبي طالب ، خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثقيف يلتمس منهم النصر . فلما انتهى إليهم عمد إلى ثلاثة نفر منهم ، وهم يومئذ سادة ثقيف ، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير ، فدعاهم إلى الله وكلمهم في نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه ، فقال أحدهم : مارد يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك . وقال آخر : أما وجد الله من يرسله غيرك ! وقال الثالث : والله لا أكلمك كلمة أبدا ، لئن كنت رسولا من الله - كما تقول - لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك ، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك .
ثقيف ، وقال لهم : إذا أبيتم فاكتموا علي ذلك ، وكره أن يبلغ قومه ، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم . فاجتمعوا إليه وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وهو البستان ، وهما فيه ، ورجع السفهاء عنه ، وجلس إلى [ ص: 686 ] ظل حبلة وقال : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ! ولكن عافيتك هي أوسع ، إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو تحل بي سخطك " . فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد يئس من خير
فلما رأى ابنا ربيعة ما لحقه تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا اسمه عداس فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب ، واذهب به إلى ذلك الرجل ، ففعل فلما وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع يده فيه وقال : بسم الله ، ثم أكل ، فقال عداس : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : " من أي بلاد أنت ؟ وما دينك ؟ " قال : أنا نصراني من أهل نينوى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أمن قرية الصالح يونس بن متى ؟ " قال له : وما يدريك ما يونس ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ذلك أخي كان نبيا وأنا نبي " ، فأكب عداس على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجليه يقبلها فعاد .
فيقول ابنا ربيعة أحدهما للآخر : أما غلامك فقد أفسده عليك . فلما جاء عداس قالا له : ويحك ما لك تقبل يديه ورجليه ؟ قال : ما في الأرض خير من هذا الرجل . قالا : ويحك إن دينك خير من دينه !
ثم مكة حتى إذا كان في جوف الليل قائما يصلي ، فمر به نفر من الجن ، وهم سبعة نفر من جن نصيبين ، رائحين إلى اليمن فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلواته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا . انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا إلى
وذكر بعضهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عاد من ثقيف أرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه فأجاره ، وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو [ ص: 687 ] أخيه فدخلوا المسجد ، فقال له أبو جهل : أمجير أم متابع ؟ قال : بل مجير . قال : قد أجرنا من أجرت فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وأقام بها . فلما رآه أبو جهل قال : هذا نبيكم يا عبد مناف . فقال عتبة بن ربيعة : وما ينكر أن يكون منا نبي وملك ؟ فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فأتاهم فقال : " أما أنت يا عتبة فما حميت لله ، وإنما حميت لنفسك ، وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا ، وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون . " ، فكان الأمر كذلك .
وكان ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح ، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم ، فأبوا عليه . فأتى كلبا ، إلى بطن منهم يقال لهم : بنو عبد الله ، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم ، فلم يقبلوا ما عرض عليهم . ثم إنه أتى بني حنيفة وعرض عليهم نفسه ، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم . ثم أتى بني عامر فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم : أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء . قال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك .
فلما رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم كبير فأخبروه خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسبه ، وضع يده على رأسه ثم قال : يا بني عامر هل من تلاف ؟ والذي نفسي بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق ، وأين كان رأيكم عنه !
ولم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على كل قادم له اسم وشرف ويدعوه إلى الله . وكان كلما أتى قبيلة يدعوهم إلى الإسلام تبعه عمه أبو لهب ، فإذا فرغ رسول الله - [ ص: 688 ] صلى الله عليه وسلم - من كلامه يقول لهم أبو لهب : يا بني فلان ، إنما يدعوكم هذا إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له .