ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة
ذكر صدقة بن مزيد قتل
في هذه السنة ، في رجب ، قتل ، أمير العرب ، وهو الذي بنى الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدي الحلة السيفية بالعراق ، وكان قد عظم شأنه ، وعلا قدره ، واتسع جاهه ، واستجار به صغار الناس وكبارهم ، فأجارهم .
وكان كثير العناية بأمور السلطان محمد ، ، والتقوية ليده ، والشد منه على أخيه بركيارق ، حتى إنه جاهر بركيارق بالعداوة ، ولم يبرح على مصافاة السلطان محمد ، وزاده محمد إقطاعا من جملته مدينة واسط ، وأذن له في أخذ البصرة ، ثم أفسد ما بينهما العميد أبو جعفر محمد بن الحسين البلخي ، وقال في جملة ما قال عنه : إن صدقة قد عظم أمره ، وزاد حاله ، وكثر إدلاله ، ويبسط في الدولة حمايته على كل من يفر إليه من عند السلطان ، وهذا لا تحتمله الملوك لأولادهم ، ولو أرسلت بعض أصحابك لملك بلاده وأمواله .
ثم إنه تعدى ذلك حتى طعن في اعتقاده ، ونسبه وأهل بلده إلى مذهب الباطنية ، وكذب ، وإنما كان مذهبه التشيع لا غير ، ووافق أرغون السعدي أبا جعفر العميد وانتهى ذلك إلى صدقة ، وكانت زوجة أرغون بالحلة وأهله ، فلم يؤاخذهم بشيء مما كان له أيضا هناك [ من ] بقايا خراج ببلده ، فأمر صدقة أن يخلص ذلك إليه بأجمعه ويسلم إلى زوجته .
[ ص: 550 ] وأما سبب قتله فإن صدقة كان ، كما ذكرنا ، يستجير به كل خائف من خليفة وسلطان وغيرهما ، وكان السلطان محمد قد سخط على أبي دلف سرخاب بن كيخسرو ، صاحب ساوة وآبة ، فهرب منه وقصد صدقة فاستجار به ، فأجاره ، فأرسل السلطان يطلب من صدقة أن يسلمه إلى نوابه ، فلم يفعل ، وأجاب : إنني لا أمكن منه بل أحامي عنه ، وأقول ما قاله أبو طالب لقريش لما طلبوا منه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم :
ونسلمه ، حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وظهر منه أمور أنكرها السلطان ، فتوجه إلى العراق ليتلافى هذا الأمر ، فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الذي يفعله ، فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال ، والخيل ، والتحف ، ليستعطف له السلطان ، وأشار سعيد بن حميد ، صاحب جيش صدقة ، بالمحاربة ، وجمع الجند ، وتفريق المال فيهم ، واستطال في القول ، فمال صدقة إلى قوله ، وجمع العساكر ، واجتمع إليه عشرون ألف فارس ، وثلاثون ألف راجل ، فأرسل إليه يحذره عاقبة أمره ، وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان ، ويعرض له توسط الحال ، فأجاب المستظهر بالله صدقة : إنني على طاعة السلطان ، لكن لا آمن على نفسي في الاجتماع به ، وكان الرسول بذلك عن الخليفة نقيب النقباء . علي بن طراد الزينبي
ثم أرسل السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي إلى صدقة يطيب قلبه ، ويزيل خوفه ، ويأمره بالانبساط على عادته ، ويعرفه عزمه على قصد الفرنج ، ويأمره بالتجهز للغزاة معه ، فأجاب : إن السلطان قد أفسد أصحابه قلبه علي ، وغيروا حالي معه ، وزال ما كان عليه في حقي من الإنعام ، وذكر سالف خدمته ومناصحته ، وقال سعيد بن حميد ، صاحب جيشه : لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع ، ولترون خيولنا بحلوان ، وامتنع صدقة من الاجتماع بالسلطان .
ووصل السلطان إلى بغداذ في العشرين من ربيع الآخر ، ومعه وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك ، وسير البرسقي ، شحنة بغداذ ، في جماعة من الأمراء إلى صرصر ، فنزلوا عليها .
[ ص: 551 ] وكان وصول السلطان ، جريدة ، لا يبلغ عسكره ألفي فارس ، فلما تيقن ببغداذ مكاشفة صدقة ، أرسل إلى الأمراء يأمرهم بالوصول إليه ، والجد في السير ، وتعجيل ذلك ، فوردوا إليه من كل جانب .
ثم وصل كتاب صدقة إلى الخليفة ، في جمادى الأولى ، يذكر أنه واقف عند ما يرسم له ويقرر من حاله مع السلطان ، ومهما أمرته من ذلك امتثله ، فأنفذ الخليفة الكتاب إلى السلطان ، فقال السلطان : أنا ممتثل ما يأمر به الخليفة ، ولا مخالفة عندي ، فأرسل الخليفة إلى صدقة يعرفه إجابة السلطان إلى ما طلب منه ، ويأمره بإنفاذ ثقته ليستوثق له ، ويحلف السلطان على ما يقع الاتفاق عليه . فعاد ( صدقة عن ذلك الرأي ، وقال : إذا رحل السلطان عن بغداذ ) أمددته بالمال والرجال ، وما يحتاج إليه في الجهاد ، وأما الآن وهو ببغداذ ، وعسكره بنهر الملك ، فما عندي مال ولا غيره ، وإن جاولي سقاوو ، ، قد أرسلا إلي بالطاعة لي والموافقة معي على محاربة السلطان وغيره ، ومتى أردتهما وصلا إلي ( في عساكرهما . وإيلغازي بن أرتق
وورد إلى ) السلطان قرواش بن شرف الدولة ، وكرماوي بن خراسان التركماني ، وأبو عمران فضل بن ربيعة بن حازم بن الجراح الطائي ، وآباؤه كانوا أصحاب البلقاء والبيت المقدس منهم : حسان بن المفرج الذي مدحه التهامي ، وكان فضل تارة مع الفرنج ، وتارة مع المصريين ، فلما رآه أتابك على هذه الحال طرده من طغتكين الشام ، فلما طرده التجأ إلى صدقة وعاقده ، فأكرمه صدقة ، وأهدى له هدايا كثيرة منها سبعة آلاف دينار عينا .
فلما كانت هذه الحادثة بين صدقة والسلطان سار في الطلائع ، ثم هرب إلى السلطان ، فلما وصل خلع عليه وعلى أصحابه ، وأنزله بدار صدقة ببغداذ ، فلما سار السلطان إلى قتال صدقة استأذنه فضل في إتيان البرية ليمنع صدقة من الهرب إن أراد ذلك ، فأذن له ، فعبر بالأنبار وكان آخر العهد به .
وأنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط الأمير محمد بن بوقا التركماني ، فأخرج عنها نائب صدقة ، وأمن الناس كلهم ، إلا أصحاب صدقة ، فتفرقوا ، ولم ينهب [ ص: 552 ] أحد ، وأنفذ خيله إلى بلد قوسان ، وهو من أعمال صدقة ، فنهبه أقبح نهب ، وأقام عدة أيام ، فأرسل صدقة إليه ثابت بن سلطان ، وهو ابن عم صدقة ، ومعه عسكر ، فلما وصلوا إليها خرج منها الأتراك ، وأقام ثابت بها ، وبينه وبينهم دجلة .
ثم إن ابن بوقا عبر جماعة من الجند ارتضاهم ، وعرف شجاعتهم ، فوقفوا على موضع مرتفع على نهر سالم ، يكون ارتفاعه نحو خمسين ذراعا ، فقصدهم ثابت وعسكره فلم يقدروا أن يقربوا الترك من النشاب ، والمدد يأتيهم من ابن بوقا ، وجرح ثابت في وجهه ، وكثر الجراح في أصحابه ، فانهزم هو ومن معه ، وتبعهم الأتراك ، فقتلوا منهم ، وأسروا ، ونهب طائفة من الترك مدينة واسط ، واختلط بهم رجالة ثابت ، فنهبت معهم ، فسمع ابن بوقا الخبر ، فركب إليهم ومنعهم ، وقد نهبوا بعض البلد ، ونادى في الناس بالأمان ، وأقطع السلطان ، أواخر جمادى الأولى ، مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي وأمر ابن بوقا بقصد بلد صدقة ونهبه ، فنهبوا فيه ما لا يحد .
وأما السلطان محمد فإنه سار عن بغداذ إلى الزعفرانية ، ثاني جمادى الآخرة ، فأرسل إليه الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب يأمره بالتوقف ، وترك العجلة خوفا على الرعية من القتل والنهب ، وأشار قاضي أصبهان بذلك ، واتباع أمر الخليفة ، فأجاب السلطان إلى ذلك ، فأرسل الخليفة إلى صدقة نقيب النقباء ، علي بن طراد وجمال الدولة مختصا الخادم ، فساروا إلى صدقة فأبلغاه رسالة الخليفة يأمره بطاعة السلطان ، وينهاه عن المخالفة ، فاعتذر صدقة ، وقال : ما خالفت الطاعة ، ولا قطعت الخطبة في بلدي . وجهز ابنه دبيسا ليسير معهما إلى السلطان .
( فبينما الرسل ) وصدقة في هذا الحديث ، إذ ورد الخبر أن طائفة من عسكر السلطان قد عبروا من مطيراباذ ، وأن الحرب بينهم وبين أصحاب صدقة قائمة على ساق ، فتجلد صدقة لأجل الرسل ، وهو يشتكي الركوب إلى أصحابه خوفا عليهم ، وكان الرسل إذا سمعوا ذلك ينكرونه لأنهم قد تقدموا إلى العسكر ، عند عبورهم عليهم ، أن لا يتعرض أحد منهم إلى حرب ، حتى نعود ، فإن الصلح قد قارب . فقال صدقة للرسول : كيف أثق أرسل ولدي الآن وكيف آمن عليه ، وقد جرى ما ترون ؟ فإن [ ص: 553 ] تكفلتم برده إلي أنفذته . فلم يتجاسروا على كفالته ، فكتب إلى الخليفة يعتذر عن إنفاذ ولده بما جرى .
وكان سبب هذه الوقعة أن عسكر السلطان لما رأوا الرسل اعتقدوا وقوع الصلح ، فقال بعضهم : الرأي أننا ننهب شيئا قبل الصلح ، فأجاب البعض وامتنع البعض ، فعبر من أجاب النهر ، ولم يتأخر من لم يجب لئلا ينسب إلى خور وجبن ، ولئلا يتم على من عبر وهن ، فيكون عاره وأذاه عليهم ، فعبروا بعدهم أيضا ، فأتاهم أصحاب صدقة وقاتلوهم ، فكانت الهزيمة على الأتراك ، وقتل منهم جماعة كثيرة ، وأسر جماعة من أعيانهم ، وكثير من غيرهم ، وغرق جماعة منهم : الأمير محمد بن ياغي سيان الذي كان أبوه صاحب أنطاكية ، وكان عمره نيفا وعشرين سنة ، وكان محبا ( للعلماء وأهل الدين ) ، وبنى بإقطاعه من أذربيجان عدة مدارس . ولم يجسر الأتراك على أن يعرفوا السلطان بما أخذ منهم من الأموال والدواب خوفا منه ، حيث فعلوا ذلك بغير أمره .
وطمع العرب بهذه الهزيمة ، وظهر منهم الفخر والتيه والطمع ، وأظهروا أنهم باعوا كل أسير بدينار ، وأن ثلاثة باعوا أسيرا بخمسة قراريط وأكلوا بها خبزا وهريسة ، وجعلوا ينادون : من يتغدى بأسير ، ويتعشى بآخر ؟ وظهر من الأتراك اضطراب عظيم .
وأعاد الخليفة مكاتبة صدقة بتحرير أمر الصلح ، فأجاب أنه لا يخالف ما يؤمر به ، وكتب صدقة أيضا إلى السلطان يعتذر مما نقل عنه ، ومن الحرب التي كانت بين أصحابه وبين الأتراك ، وأن جند السلطان ( عبرت إلى ) أصحابه ، فمنعوا عن أنفسهم بغير علمه ، وأنه لم يحضر الحرب ، ولم ينزع يدا من طاعة ، ولا قطع خطبته من بلده .
ولم يكن صدقة كاتبه قبل هذا الكتاب ، فأرسل الخليفة نقيب النقباء ، وأبا سعد الهروي إلى صدقة ، ( فقصد السلطان أولا ، وأخذ يده بالأمان لمن يقصده من أقارب صدقة ، فلما وصلا إلى صدقة ) وقالا له عن الخليفة : إن إصلاح قلب السلطان [ ص: 554 ] موقوف على إطلاق الأسرى ، ورد جميع ما أخذ من العسكر المنهزم ، فأجاب أولا بالخضوع والطاعة ، ثم قال : لو قدرت على الرحيل من بين يدي السلطان فعلت ، لكن ورائي من ظهري ، وظهر أبي وجدي ، ثلاثمائة امرأة ، ولا يحملهن مكان ، ولو علمت أنني إذا جئت السلطان مستسلما قبلني واستخدمني لفعلت ، لكنني أخاف أنه لا يقيل عثرتي ، ولا يعفو عن زلتي .
وأما ما نهب فإن الخلق كثير ، وعندي من لا أعرفه ، وقد نهبوا ودخلوا البر ، فلا طاقة لي عليهم ، ولكن إن كان السلطان لا يعارضني فيما في يدي ، ولا فيمن أجرته ، وأن يقر سرخاب بن كيخسرو على إقطاعه بساوة ، وأن يتقدم إلى ابن بوقا بإعادة ما نهب من بلادي ، وأن يخرج وزير الخليفة يحلفه بما أثق به من الأيمان على المحافظة فيما بيني وبينه ، فحينئذ أخدم بالمال ، وأدوس بساطه بعد ذلك .
فعادوا بهذا ، ومعهم أبو منصور بن معروف ، رسول صدقة ، فردهم الخليفة ، وأرسل السلطان معهم قاضي أصبهان أبا إسماعيل ، فأما أبو إسماعيل فلم يصل إليه ، وعاد من الطريق ، وأصر صدقة على القول الأول . فحينئذ سار السلطان ، ثامن رجب ، من الزعفرانية ، وسار صدقة في عساكره إلى قرية مطر ، وأمر جنده بلبس السلاح ، واستأمن ثابت بن السلطان بن دبيس بن علي بن مزيد ، وهو ابن عم صدقة ، إلى السلطان محمد ، وكان يحسد صدقة ، وهو الذي تقدم ذكره أنه كان بواسط ، فأكرمه السلطان ، وأحسن إليه ، ووعده الإقطاع .
ووردت العساكر إلى السلطان منهم : بنو برسق ، وعلاء الدولة أبو كاليجار كرشاسب بن علي بن فرامرز ( أبي جعفر بن كاكاويه وآباؤه كانوا أصحاب أصبهان ، وفرامرز ) هو الذي سلمها إلى طغرلبك ، وقتل أبوه مع تتش .
وعبر عسكر السلطان دجلة ، ولم يعبر هو ، فصاروا مع صدقة على أرض واحدة ، بينهما نهر ، والتقوا تاسع عشر رجب ، وكانت الريح في وجوه أصحاب السلطان ، فلما التقوا صارت في ظهورهم ، وفي وجوه أصحاب صدقة ، ثم إن الأتراك رموا بالنشاب ، فكان يخرج في كل رشقة عشرة آلاف نشابة ، فلم يقع سهم إلا في فرس أو فارس ، وكان أصحاب صدقة كلما حملوا منعهم النهر من الوصول إلى الأتراك والنشاب ، ومن عبر منهم لم يرجع ، وتقاعدت عبادة وخفاجة ، وجعل صدقة ينادي : يا آل خزيمة ، يا آل [ ص: 555 ] ناشرة ، يا آل عوف ، ووعد الأكراد بكل جميل لما ظهر من شجاعتهم ، وكان راكبا على فرسه المهلوب ، ولم يكن لأحد مثله ، فجرح الفرس ثلاث جراحات وأخذه الأمير أحمديل بعد قتل صدقة ، فسيره إلى بغداذ في سفينة ، فمات في الطريق .
وكان لصدقة فرس آخر قد ركبه حاجبه أبو نصر بن تفاحة ، فلما رأى الناس وقد غشوا صدقة هرب عليه ، فناداه صدقة ، فلم يجبه ، وحمل صدقة على الأتراك ، وضربه غلام منهم على وجهه فشوهه ، وجعل يقول : أنا ملك العرب ، أنا صدقة ! فأصابه سهم في ظهره ، وأدركه غلام اسمه بزغش ، كان أشل ، فتعلق به ، وهو لا يعرفه ، وجذبه عن فرسه ، فسقط إلى الأرض هو والغلام ، فعرفه صدقة ، فقال : يا بزغش ارفق ، فضربه بالسيف فقتله ، وأخذ رأسه وحمله إلى البرسقي ، فحمله إلى السلطان ، فلما رآه عانقه ، وأمر لبزغش بصلة .
وبقي صدقة طريحا إلى أن سار السلطان ، فدفنه إنسان من المدائن . وكان عمره تسعا وخمسين سنة ، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة ، وحمل رأسه إلى بغداذ ، وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس ، فيهم جماعة من أهل بيته ، وقتل من بني شيبان خمسة وتسعون رجلا ، وأسر ابنه ، دبيس بن صدقة وسرخاب بن كيخسرو الديلمي الذي كانت هذه الحرب بسببه ، فأحضر بين يدي السلطان ، فطلب الأمان ، فقال : قد عاهدت الله أنني لا أقتل أسيرا ، فإن ثبت عليك أنك باطني قتلتك ، وأسر سعيد بن حميد العمري ، صاحب جيش صدقة ، وهرب بدران بن صدقة إلى الحلة ، فأخذ من المال وغيره ما أمكنه ، وسير أمه ونساءه إلى البطيحة إلى مهذب الدولة أبي العباس أحمد بن أبي الجبر ، وكان بدران صهر مهذب الدولة على ابنته ، ونهب من الأموال ما لا حد عليه .
وكان له من الكتب المنسوبة الخط شيء كثير ، ألوف مجلدات ، وكان يحسن يقرأ ، ولا يكتب ، وكان جوادا ، حليما ، صدوقا ، كثير البر والإحسان ، ما برح ملجأ [ ص: 556 ] لكل ملهوف ، يلقى من يقصده بالبر والتفضل ، ويبسط قاصديه ، ويزورهم ، وكان عادلا ، والرعايا معه في أمن ودعة ، وكان عفيفا لم يتزوج على امرأته ، ولا تسرى عليها ، فما ظنك بغير هذا ؟ ولم يصادر أحدا من نوابه ، ولا أخذهم بإساءة قديمة ، وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته ، ويدلون عليه إدلال الولد على الوالد ، ولم يسمع برعية أحبت أميرها كحب رعيته له .
وكان متواضعا ، محتملا ، يحفظ الأشعار ، ويبادر إلى النادرة ، رحمه الله ، لقد كان من محاسن الدنيا .
وعاد السلطان إلى بغداذ ، ولم يصل إلى الحلة ، وأرسل إلى البطيحة أمانا لزوجة صدقة ، وأمرها بالظهور فأصعدت إلى بغداذ ، فأطلق السلطان ابنها دبيسا ، وأنفذ معه جماعة من الأمراء إلى لقائها ، فلما لقيها ابنها بكيا بكاء شديدا ، ولما وصلت إلى بغداذ أحضرها السلطان ، واعتذر من قتل زوجها ، وقال : وددت أنه حمل إلي حتى كنت أفعل معه ما يعجب الناس به من الجميل والإحسان ، لكن الأقدار غلبتني . واستحلف ابنها دبيسا أنه لا يسعى بفساد .