في هذه السنة في صفر قتل جمع من المسلمين ببئر معونة .
وكان سبب ذلك أن أبا براء بن عازب بن عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة ، سيد بني عامر بن صعصعة ، قدم المدينة وأهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية ، فلم يقبلها وقال : يا أبا براء ، لا أقبل هدية مشرك ، ثم عرض عليه الإسلام فلم يبعد عنه ولم يسلم ، وقال : إن أمرك هذا حسن ، فلو بعثت رجلا من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أخشى عليهم أهل نجد . فقال أبو براء : أنا لهم جار .
[ ص: 59 ] فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين رجلا ، فيهم : المنذر بن عمرو الأنصاري المعنق ليموت ، والحارث بن الصمة ، وحرام بن ملحان ، وعامر بن فهيرة ، وغيرهم ، وقيل : كانوا أربعين ، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عامر بن الطفيل ، فلما أتاه لم ينظر إلى الكتاب وعدا على حرام فقتله ، فلما طعنه قال : الله أكبر ، فزت ورب الكعبة ! واستصرخ بني عامر ، فلم يجيبوه وقالوا : لن نخفر أبا براء ، فقد أجارهم ، فاستصرخ بني سليم : عصية ورعلا وذكوان ، فأجابوه وخرجوا حتى أحاطوا بالمسلمين ، فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد الأنصاري ، فإنهم تركوه وبه رمق ، فعاش حتى قتل يوم الخندق .
وكان في سرح القوم ورجل من عمرو بن أمية الأنصار ، فرأيا الطير تحوم على العسكر فقالا : إن لها لشأنا ، فأقبلا ينظران ، فإذا القوم صرعى ، وإذا الخيل واقفة ، فقال عمرو : نلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره الخبر . فقال الأنصاري : لا أرغب بنفسي عن موطن فيه المنذر بن عمرو ، ثم قاتل حتى قتل ، فأخذوا أسيرا . فلما علم عمرو بن أمية عامر أنه من سعد أطلقه ، وخرج عمرو حتى إذا كان بالقرقرة لقي رجلين من بني عامر ، فنزلا معه ومعهما عقد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم به عمرو فقتلهما ، ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخبر ، فقال له : لقد قتلت قتيلين لأدينهما . ثم قال رسول الله : هذا عمل أبي براء ، فشق عليه ذلك .
وكان فيمن قتل عامر بن فهيرة ، فكان عامر بن الطفيل يقول : من الرجل منهم لما قتل رفع بين السماء والأرض ؟ قالوا : هو عامر بن فهيرة . وقال يحرض حسان بن ثابت بني أبي البراء على عامر بن الطفيل :
بني أم البنين ألم يرعكم وأنتم من ذوائب أهل نجد تهكم عامر بأبي براء ليخفره وما خطأ كعمد
[ ص: 60 ] في أبيات له . فقال : كعب بن مالك
لقد طارت شعاعا كل وجه خفارة ما أجار أبو براء
في أبيات أخرى .
فلما بلغ ربيعة بن أبي براء ذلك حمل على عامر بن الطفيل فطعنه ، فخر عن فرسه ، فقال : إن مت فدمي لعمي . وأنزل الله - عز وجل - في أهل بئر معونة قرآنا : بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا ، فرضي عنا ورضينا عنه . ثم نسخت .
( معونة بفتح الميم ، وضم العين المهملة ، وبعد الواو نون . وحرام بالحاء المهملة ، والراء . وملحان بكسر الميم ، وبالحاء المهملة ) .