ثم قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فلم يقم إلا أياما قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيل غطفان على لقاح النبي ، وأول من نذر بهم سلمة بن الأكوع [ ص: 74 ] الأسلمي ، هكذا ذكرها أبو جعفر بعد غزوة بني لحيان عن ، والرواية الصحيحة عن ابن إسحاق سلمة : أنها كانت بعد مقدمه المدينة منصرفا من الحديبية ، وبين الوقعتين تفاوت .
قال : سلمة بن الأكوع المدينة بعد صلح الحديبية ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهره مع رباح غلامه ، وخرجت معه بفرس أقبلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ، فلما أصبحنا إذا طلحة بن عبيد الله عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستاقه أجمع ، وقتل راعيه . قلت : يا رباح ، خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المشركين قد أغاروا على سرحه ، ثم استقبلت الأكمة فناديت ثلاثة أصوات : يا صباحاه ! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل ، وأرتجز وأقول :
خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع
قال : فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم ، فإذا خرج إلي فارس قعدت في أصل شجرة فرميته فعقرت به ، وإذا دخلوا في مضايق الجبل رميتهم بالحجارة من فوقهم ، فما زلت كذلك حتى ما تركت من ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا إلا جعلته وراء ظهري ، وخلوا بيني وبينه ، وألقوا أكثر من ثلاثين رمحا ، وثلاثين بردة يستخفون بها ، لا يلقون شيئا إلا جعلت عليه أمارة ، أي علامة ، حتى يعرفه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا انتهوا إلى متضايق من ثنية أتاهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ممدا ، فقعدوا يتضحون ، فلما رآني قال : ما هذا ؟ قالوا : لقينا منه البرح ، وقد استنقذ كل ما بأيدينا ، فما برحت مكاني حتى أبصرت فوارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخللون الشجر ، أولهم الأخرم الأسدي - واسمه محرز بن نضلة من أسد بن خزيمة - وعلى أثره ، وعلى أثرهما أبو قتادة ، فأخذت بعنان المقداد بن عمرو الكندي الأخرم وقلت : احذر القوم لا يقتطعوك حتى تلحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فقال : يا سلمة ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة . قال : فخليته ، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة ، فعقر الأخرم بعبد الرحمن فرسه ، وطعنه عبد الرحمن فقتله ، وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم ، ولحق فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه ، فانطلقوا هاربين ، قال سلمة : فوالذي [ ص: 75 ] كرم وجه محمد لأتبعنهم أعدو على رجلي ، حتى ما أرى من أصحاب محمد ولا غبارهم شيئا .
وعدلوا قبل غروب الشمس إلى غار فيه ماء ، يقال له : ذو قرد ، يشربون منه وهم عطاش ، فنظروا إلي أعدو في آثارهم ، فحليتهم ، فما ذاقوا منه قطرة ، قال : واشتدوا في ثنية ذي أبهر ، فأرشق بعضهم بسهم ، فيقع في نغض كتفه ، فقلت :
خذها وأنا واليوم يوم الرضع ابن الأكوع
وإذا فرسان على الثنية ، فجئت بهما أقودهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولحقني عمي عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن ، وسطيحة فيها ماء ، فتوضأت وصليت وشربت ، ثم بذي قرد ، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ تلك الإبل التي استنقذت من العدو ، وكل رمح ، وكل بردة ، وإذا بلال قد نحر لهم ناقة من الإبل وهو يشوي منها ، فقلت : يا رسول الله ، خلني أنتخب مائة رجل فلا يبقى منهم عين تطرف . فضحك وقال : إنهم ليقرون بأرض غطفان ، فجاء رجل من غطفان فقال : نحر لهم فلان جزورا ، فلما كشطوا عنها جلدها رأوا غبارا ، فقالوا : أتيتم ، فخرجوا هاربين .
فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : خير فرساننا ، وخير رجالنا أبو قتادة ، ثم أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم الفارس ، وسهم الراجل ، ثم أردفني على العضباء . فبينما نحن نسير ، وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا ، فقال : ألا من مسابق ؟ مرارا ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، إيذن لي فلأسابق الرجل . قال : إن [ ص: 76 ] شئت . قال : فطفرت وربطت شرفا أو شرفين فألحقه ، فقلت : سبقتك والله ! فسبقته إلى سلمة بن الأكوع المدينة ، فلم نمكث بها إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر . جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الماء الذي حليتهم عنه
وفي هذه الغزوة نودي : يا خيل الله اركبي ، ولم يكن يقال قبلها .
( قرد بفتح القاف والراء ) .