[ ص: 327 ] 562
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة
ذكر إلى أسد الدين شيركوه مصر عود
قد ذكرنا سنة تسع وخمسين وخمسمائة مسير إلى أسد الدين شيركوه مصر ، وما كان منه ، وقفوله إلى الشام ، فلما وصل إلى الشام أقام على حاله في خدمة نور الدين إلى الآن .
وكان بعد عوده منها لا يزال يتحدث بها وبقصدها ، وكان عنده من الحرص على ذلك كثير ، فلما كان هذه السنة تجهز وسار في ربيع الآخر في جيش قوي ، وسير معه نور الدين جماعة من الأمراء ، فبلغت عدتهم ألفي فارس ، وكان كارها لذلك ، ولكن لما رأى جد أسد الدين في المسير لم يمكنه إلا أن يسير معه جمعا خوفا من حادث يتجدد عليهم ، فيضعف الإسلام ، فلما اجتمع معه عسكره سار إلى مصر على البر ، وترك بلاد الفرنج على يمينه ، فوصل الديار المصرية ، فقصد إطفيح ، وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي ، ونزل بالجيزة مقابل مصر ، وتصرف في البلاد الغربية ، وحكم عليها ، وأقام نيفا وخمسين يوما .
وكان لما بلغه مجيء شاور أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجدهم ، فأتوه على الصعب والذلول ، طمعا في ملكها ، وخوفا أن يملكها أسد الدين فلا يبقى لهم في بلادهم مقام معه ومع نور الدين ، فالرجاء يقودهم ، والخوف يسوقهم ، فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي ، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد ، فبلغ مكانا يعرف بالبابين ، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه ، فأدركوه بها الخامس والعشرين من جمادى الآخرة ، وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسين ، فعادوا إليه ، وأخبروه بكثرة عددهم وعددهم ، وجدهم في طلبه ، فعزم على قتالهم ، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من سلامتهم ، لقلة عددهم وبعدهم عن أوطانهم وبلادهم ، [ ص: 328 ] وخطر الطريق ، فاستشارهم ، فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام ، وقالوا له : إن نحن انهزمنا ، وهو الذي يغلب على الظن ، فإلى أين نلتجئ ، وبمن نحتمي ، وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدو لنا ؟
فقام أمير من مماليك نور الدين يقال له شرف الدين بزغش ، صاحب شقيف ، وكان شجاعا ، وقال : من يخاف القتل والأسر فلا يخدم الملوك بل يكون في بيته مع امرأته ، والله لئن عدنا إلى نور الدين من غير غلبة ولا بلاء نعذر فيه ليأخذن ما لنا من أقطاع وجامكية ، وليعودن علينا بجميع ما أخذناه منذ خدمناه إلى يومنا هذا ، ويقول : تأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم ، وتسلمون مثل مصر إلى الكفار ! والحق بيده .
فقال أسد الدين : هذا الرأي ، وبه أعمل ، وقال ابن أخيه صلاح الدين مثله ، وكثر الموافقون لهم ، واجتمعت الكلمة على القتال ، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة ، وجعل الأثقال في القلب يتكثر بها ، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد ، وجعل صلاح الدين في القلب ، وقال ولمن معه : إن المصريين والفرنج يجعلون حملتهم على القلب ظنا منهم أني فيه ، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال ، ولا تهلكوا نفوسكم ، واندفعوا بين أيديهم فإذا عادوا عنكم ، فارجعوا في أعقابهم .
واختار هو من شجعان عسكره جمعا يثق بهم ويعرف صبرهم في الحرب ، ووقف بهم في الميمنة ، فلما تقاتل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره ، وحملوا على القلب ، فقاتلهم من به قتالا يسيرا ، وانهزموا بين أيديهم غير متفرقين وتبعهم الفرنج ، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف عن الذين حملوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل ، فهزمهم ، ووضع السيف فيهم ، فأثخن وأكثر القتل والأسر ، فلما عاد الفرنج من المنهزمين رأوا عسكرهم مهزوما ، والأرض قفرا ، فانهزموا أيضا ، وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل .