ذكر أسامة بن زيد إنفاذ جيش
قد ذكرنا استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش ، وأمره بالتوجه إلى [ ص: 195 ] أسامة بن زيد الشام ، وكان قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها ، وفيهم ، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسر الجيش ، وارتدت العرب إما عامة أو خاصة من كل قبيلة ، وظهر النفاق ، واشرأبت يهود والنصرانية ، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة ؛ لفقد نبيهم ، وقلتهم وكثرة عدوهم . فقال الناس عمر بن الخطاب لأبي بكر : إن هؤلاء - يعنون جيش أسامة - جند المسلمين ، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك ، فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك . فقال أبو بكر : والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . فخاطب الناس ، وأمرهم بالتجهز للغزو ، وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف ، فخرجوا كما أمرهم ، وجيش أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم ، فصاروا مسالح حول قبائلهم ، وهم قليل .
فلما خرج الجيش إلى معسكرهم بالجرف وتكاملوا - أرسل أسامة ، وكان معه في جيشه ، إلى عمر بن الخطاب أبي بكر يستأذنه أن يرجع الناس ، وقال : إن معي وجوه الناس وحدهم ، ولا آمن على خليفة رسول الله ، وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون . وقال من مع أسامة من الأنصار : إن لعمر بن الخطاب أبا بكر خليفة رسول الله ، فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا ، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة .
فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر ، فأخبره بما قال أسامة . فقال : لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذته كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أرد قضاء قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته . قال عمر : فإن الأنصار تطلب رجلا أقدم سنا من أسامة . فوثب أبو بكر ، وكان جالسا ، وأخذ بلحية عمر وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ! استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمرني أن أعزله ؟ !
ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم وأشخصهم وشيعهم ، وهو ماش وأسامة راكب ، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله ، لتركبن أو لأنزلن ! فقال : والله لا نزلت ولا أركب ، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ! فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترفع له ، وسبعمائة سيئة تمحى عنه .
[ ص: 196 ] فلما أراد أن يرجع قال لأسامة : إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ، فأذن له ، ثم وصاهم فقال : لا تخونوا ، ولا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا وتحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع ، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ، وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رءوسهم ، وتركوا حولها مثل العصائب ، فاخفقوهم بالسيف خفقا . اندفعوا باسم الله .
وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فسار وأوقع بقبائل من ناس قضاعة التي ارتدت ، وغنم وعاد ، وكانت غيبته أربعين يوما ، وقيل : سبعين يوما .
وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعا للمسلمين ، فإن العرب قالوا : لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش ، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه .