ذكر فرات بادقلى ، وفتحه الحيرة وقعة يوم
ثم سار خالد من أمغيشيا إلى الحيرة وحمل الرحال والأثقال في السفن ، فخرج مرزبان الحيرة ، وهو الأزاذبه ، فعسكر عند الغريين ، وأرسل ابنه فقطع الماء عن السفن ، فبقيت على الأرض . فسار خالد في خيل نحو ابن الأزاذبه فلقيه على فرات بادقلى ، فضربه وقتله وقتل أصحابه ، وسار نحو الحيرة ، فهرب منه الأزاذبه ، وكان قد بلغه موت أردشير وقتل ابنه ، فهرب بغير قتال ، ونزل المسلمون عند الغريين ، وتحصن أهل الحيرة فحصرهم في قصورهم . وكان ضرار بن الأزور محاصرا القصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصة الطائي ، وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغريين وفيه عدي بن عدي [ ص: 239 ] المقتول ، وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة محاصرا قصر ابن مازن وفيه ابن أكال ، وكان المثنى محاصرا قصر ابن بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة ، فدعوهم جميعا وأجلوهم يوما وليلة ، فأبى أهل الحيرة ، وقاتلهم المسلمون ، فافتتحوا الدور والديرات وأكثروا القتل . فنادى القسيسون والرهبان : يا أهل القصر ، ما يقتلنا غيركم ! فنادى أهل القصور المسلمين : قد قبلنا واحدة من ثلاث ، وهي إما الإسلام أو الجزية أو المحاربة ، فكفوا عنهم ، وخرج إليهم إياس بن قبيصة ، وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث ، وهو بقيلة ، وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين ، فقالوا : ما أنت إلا بقيلة خضراء ، فأرسلوهم إلى خالد ، فكان الذي يتكلم عنهم عمرو بن عبد المسيح ، فقال له خالد : كم أتى عليك ؟ قال : مئو سنين . قال : فما أعجب ما رأيت ؟ قال : رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة ، وتخرج المرأة فلا تتزود إلا رغيفا . فتبسم خالد وقال لأهل الحيرة : ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة ، فما بالكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدرى من أين جاء ؟
فأحب عمرو أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله وصحة ما حدثه به ، قال : وحقك إني لأعرف من أين جئت ! قال : فمن أين خرجت ؟ قال : من بطن أمي . قال : فأين تريد ؟ قال : أمامي . قال : وما هو ؟ قال : الآخرة . قال : فمن أين أقصى أثرك ؟ قال : من صلب أبي . قال : ففيم أنت ؟ قال : في ثيابي . قال : أتعقل ؟ قال : إي والله وأقيد . قال خالد : إنما أسألك ! قال : فأنا أجيبك . قال : أسلم أنت أم حرب ؟ قال : بل سلم . قال : فما هذه الحصون ؟ قال : بنيناها للسفيه نحبسه حتى ينهاه الحليم . قال خالد : قتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها ، القوم أعلم بما فيهم .
وكان مع ابن بقيلة خادم معه كيس فيه سم ، فأخذه خالد ونثره في يده وقال : لم تستصحب هذا ؟ قال : خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت ، فكان الموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي . فقال خالد : إنها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها ، وقال : باسم الله خير الأسماء ، رب الأرض والسماء ، الذي لا يضر مع اسمه داء ، الرحمن الرحيم . وابتلع السم . فقال ابن بقيلة : والله لتبلغن ما أردتم ما دام أحد منكم هكذا .
وأبى خالد أن يصالحهم إلا على تسليم كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل ، فأبوا ، فقالت : هونوا عليهم وأسلموني ، فإني سأفتدي . ففعلوا ، فأخذها شويل ، فافتدت منه بألف [ ص: 240 ] درهم ، فلامه الناس ، فقال : ما كنت أظن أن عددا أكثر من هذا .
وكان سبب تسليمها إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر استيلاء أمته على ملك فارس والحيرة - سأله شويل أن يعطى كرامة ابنة عبد المسيح ، وكان رآها شابة فمال إليها ، فوعده النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فلما فتحت الحيرة طلبها وشهد له شهود بوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسلمها إليه ، فسلمها إليه خالد .
وصالحهم على مائة ألف وتسعين ألفا ، وقيل : على مائتي ألف وتسعين ألفا ، وأهدوا له هدايا . فبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر ، فقبلها أبو بكر من الجزاء ، وكتب إلى خالد أن يأخذ منهم بقية الجزية ، ويحسب لهم الهدية .
وكان فتح الحيرة في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ، وكتب لهم خالد كتابا ، فلما كفر أهل السواد ضيعوا الكتاب ، فلما افتتحه المثنى ثانية عاد بشرط آخر ، فلما عادوا كفروا ، وافتتحها ووضع عليهم أربعمائة ألف . سعد بن أبي وقاص
قال خالد : ما لقيت قوما كأهل فارس ، وما لقيت من أهل فارس كأهل أليس .