ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة   إلى الشام   
وفي هذه السنة سير  عثمان  نفرا من أهل الكوفة   إلى الشام    . وكان السبب في ذلك أن   سعيد بن العاص  لما ولاه  عثمان  الكوفة  حين شهد على  الوليد  بشرب الخمر ، أمره أن يسير  الوليد  إليه ، فقدم  سعيد  الكوفة  وسير  الوليد  وغسل المنبر ، فنهاه رجال من بني أمية  كانوا قد خرجوا معه عن ذلك ، فلم يجبهم ، واختار  سعيد  وجوه الناس وأهل القادسية   وقراء أهل الكوفة   ، فكان هؤلاء دخلته إذا خلا ، وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه ،   [ ص: 512 ] فدخلوا عليه يوما ، فبينا هم يتحدثون قال  حبيش بن فلان الأسدي     : ما أجود   طلحة بن عبيد الله     ! فقال  سعيد     : إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادا ، والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشا رغدا . فقال  عبد الرحمن بن حبيش  ، وهو حدث : والله لوددت أن هذا الملطاط لك ، يعني  لسعيد  ، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات  الذي يلي الكوفة    . قالوا : فض الله فاك ! والله لقد هممنا بك ! فقال أبوه : غلام فلا تجاوزه . فقالوا : يتمنى له سوادنا . قال : ويتمنى لكم أضعافه ، فثار به  الأشتر  ،  وجندب  ،  وابن ذي الحنكة  ،  وصعصعة  ،  وابن الكواء  ،  وكميل  ،  وعمير بن ضابئ  فأخذوه ، فثار أبوه ليمنع عنه ، فضربوهما حتى غشي عليهما ، وجعل  سعيد  يناشدهم ويأبون حتى قضوا منهما وطرا . فسمعت بذلك بنو أسد  فجاءوا وفيهم  طليحة  ، فأحاطوا بالقصر ، وركبت القبائل فعاذوا  بسعيد  ، فخرج  سعيد  إلى الناس فقال : أيها الناس قوم تنازعوا وقد رزق الله العافية ، فردهم فتراجعوا . وأفاق الرجلان فقالا : قاتلنا غاشيتك . فقال : لا يغشوني أبدا ، فكفا ألسنتكما ولا تحزبا الناس . ففعلا ، وقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في  عثمان     . 
وقيل : بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر عند   سعيد بن العاص  وجوه أهل الكوفة  ،  منهم :  مالك بن كعب الأرحبي   والأسود بن يزيد  ،   وعلقمة بن قيس النخعيان  ،   ومالك الأشتر  ، وغيرهم ، فقال  سعيد     : إنما هذا السواد بستان قريش    . فقال  الأشتر     : أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك ؟ وتكلم القوم معه ، فقال  عبد الرحمن الأسدي  ، وكان على شرطة  سعيد     : أتردون على الأمير مقالته ؟ وأغلظ لهم . فقال  الأشتر     : من هاهنا ؟ لا يفوتنكم الرجل ! فوثبوا عليه فوطئوه وطأ شديدا حتى غشي عليه ، ثم جر برجله ، فنضح بماء فأفاق فقال : قتلني من انتخبت . فقال : والله لا يسمر عندي   [ ص: 513 ] أحد أبدا . فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون  عثمان  وسعيدا  ، واجتمع إليهم الناس حتى كثروا ، فكتب  سعيد  وأشراف أهل الكوفة   إلى  عثمان  في إخراجهم ، فكتب إليهم أن يلحقوهم  بمعاوية  ، وكتب إلى  معاوية     : إن نفرا قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم ، فإن آنست منهم رشدا فاقبل ، وإن أعيوك فارددهم علي .
فلما قدموا على  معاوية  أنزلهم كنيسة مريم  ، وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق  بأمر  عثمان  ، وكان يتغدى ويتعشى معهم ، فقال لهم يوما : 
إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة ، وقد أدركتم بالإسلام شرفا ، وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم ، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا  ، ولو لم تكن قريش  كنتم أذلة ، إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم ، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة ، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر ، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم . 
فقال رجل منهم ، وهو  صعصعة     : أما ما ذكرت من قريش  فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا ، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا . 
فقال  معاوية     : عرفتكم الآن وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول ، وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلا ، أعظم عليك أمر الإسلام وتذكرني بالجاهلية ! أخزى الله قوما عظموا أمركم ! افقهوا عني ، ولا أظنكم تفقهون أن قريشا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى ، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم ، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا ، وأمحضهم أنسابا ، وأكملهم مروءة ، ولم يمتنعوا في الجاهلية ، والناس يأكل بعضهم بعضا ، إلا بالله ، فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حولهم ! هل تعرفون عربيا أو عجميا أو أسود أو أحمر إلا وقد أصابه الدهر في بلده وحرمته إلا ما كان من قريش  ، فإنهم لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل ، حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة ، فارتضى لذلك خير خير خلقه ، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا  ، ثم بنى هذا الملك عليهم ، ونجعل هذه الخلافة فيهم ، فلا   [ ص: 514 ] يصلح ذلك إلا عليهم ، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم ، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه ؟ أف لك ولأصحابك ! 
أما أنت يا  صعصعة  فإن قريتك شر القرى ! أنتنها بيتا ، وأعمقها واديا ، وأعرفها بالشر ، وألأمها جيرانا ! لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها ، ثم كانوا ألأم العرب ألقابا وأصهارا ، نزاع الأمم ، وأنتم جيران الخط ، وفعلة فارس ، حتى أصابتكم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تسكن البحرين  فتشركهم في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنت شر قومك ، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجا ، وتنزع إلى الذلة ، ولا يضر ذلك قريشا  ولا يضعهم ، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم ، إن الشيطان عنكم غير غافل ، قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس ، وهو صارعكم ، ولا تدركون بالشر أمرا أبدا إلا فتح الله عليكم شرا منه وأخزى . 
ثم قام وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم ، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال : إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضره ، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة ، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام ، فإن البطر لا يعتري الخيار ، اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم . 
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم : إني معيد عليكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معصوما فولاني وأدخلني في أمره ، ثم استخلف  أبو بكر  فولاني ، ثم استخلف  عمر  فولاني ، ثم استخلف  عثمان  فولاني ، ولم يولني أحد إلا وهو عني راض ، وإنما طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء ، وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به ، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون ، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم . 
وكتب  معاوية  إلى  عثمان     : إنه قدم على أقوام ليست لهم عقول ولا أديان ، أضجرهم العدل ، لا يريدون الله بشيء ، ولا يتكلمون بحجة ، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة  ، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم ، وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم ، فانه  سعيدا  ومن عنده عنهم ، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكير . 
فخرجوا من دمشق  فقالوا : لا ترجعوا بنا إلى الكوفة  ، فإنهم يشمتون بنا ، ولكن ميلوا   [ ص: 515 ] إلى الجزيرة ، فسمع بهم  عبد الرحمن بن خالد بن الوليد  ، وكان على حمص  ، فدعاهم فقال : يا آلة الشيطان لا مرحبا بكم ولا أهلا ، قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد نشاط ، خسر الله  عبد الرحمن  إن لم يؤدبكم ، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم ، لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم  لمعاوية  ، أنا  ابن خالد بن الوليد  ، أنا ابن من قد عجمته العاجمات ، أنا ابن فاقئ الردة ! والله لئن بلغني يا  صعصعة  أن أحدا ممن معي دق أنفك ثم أمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى ! فأقامهم شهرا كلما ركب أمشاهم ، فإذا مر به  صعصعة  قال : يا   ابن الحطيئة  ، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ؟ ما لك لا تقول كما بلغني أنك قلت  لسعيد  ومعاوية  ؟ فيقولون : نتوب إلى الله ، أقلنا أقالك الله . فما زالوا به حتى قال : تاب الله عليكم . وسرح  الأشتر  إلى  عثمان  ، فقدم إليه ثانيا ، فقال له  عثمان     : احلل حيث شئت . فقال : مع  عبد الرحمن بن خالد     . فقال : ذلك إليك ، فرجع إليه . 
قيل : وقد روي أيضا نحو ما تقدم ، وزادوا فيه أن  معاوية  لما عاد إليهم من القابلة وذكرهم كان مما قال لهم : وإني والله لا آمركم بشيء إلا وقد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي ، وقد عرفت قريش  أن  أبا سفيان  كان أكرمها وابن أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فإنه انتخبه وأكرمه ، وإني لأظن أن  أبا سفيان  لو ولد الناس لم يلد إلا حازما . قال  صعصعة     : قد كذبت ! قد ولدهم خير من  أبي سفيان  من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له ، وكان فيهم البر والفاجر ، والأحمق والكيس . فخرج تلك الليلة من عندهم ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلا ، ثم قال : أيها القوم ردوا خيرا أو اسكتوا وتفكروا ، وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم والمسلمين فاطلبوه . فقال  صعصعة     : لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله . فقال : أليس أول من ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة نبيه ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ؟ قالوا : بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال : إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على أحسن ما قدرتم عليه . فقال  صعصعة     : فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ، من كان أبوه أحسن قدما في الإسلام من أبيك وهو أحسن في الإسلام قدما منك . 
فقال : والله إن لي في الإسلام قدما ولغيري كان أحسن قدما   [ ص: 516 ] مني ، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك   عمر بن الخطاب  ، فلو كان غيري أقوى مني لم تكن عند  عمر  هوادة لي ولا لغيري ، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي ، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي فاعتزلت عمله ، فمهلا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر ، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت لأهل الإسلام يوما ولا ليلة ، فعاودوا الخير وقولوه ، وإن لله لسطوات ، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن ، فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل . فوثبوا عليه وأخذوا رأسه ولحيته ، فقال : مه إن هذه ليست بأرض الكوفة  ، والله لو رأى أهل الشام   ما صنعتم بي ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا ! 
ثم قام من عندهم ، وكتب إلى  عثمان  نحو الكتاب المتقدم ، فكتب إليه  عثمان  يأمره أن يردهم إلى   سعيد بن العاص  بالكوفة  ، فردهم فأطلقوا ألسنتهم ، فضج  سعيد  منهم إلى  عثمان  ، فكتب إليه  عثمان  أن يسيرهم إلى  عبد الرحمن بن خالد  بحمص  ، فسيرهم إليها ، فأنزلهم  عبد الرحمن  وأجرى عليهم رزقا ، وكانوا :  الأشتر  ،  وثابت بن قيس الهمداني  ،  وكميل بن زياد  ،   وزيد بن صوحان  ، وأخاه  صعصعة  ،  وجندب بن زهير الغامدي  ،   وجندب بن كعب الأزدي  ،  وعروة بن الجعد  ،  وعمرو بن الحمق الخزاعي  ،  وابن الكواء     . 
قيل : سأل  معاوية  ابن الكواء  عن نفسه قال : أنت بعيد الثرى كثير المرعى طيب البديهة بعيد الغور ، الغالب عليك الحلم ، ركن من أركان الإسلام ، سدت بك فرجة مخوفة . قال : فأخبرني عن أهل الأحداث من الأمصار فإنك أعقل أصحابك . قال : أما أهل المدينة   فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه ، وأما أهل الكوفة   فإنهم يردون جميعا ويصدرون شتى ، وأما أهل مصر   فهم أوفى الناس بشر وأسرعهم ندامة ، وأما أهل الشام   فهم أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					