ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين
في هذه السنة بسر بن أبي أرطاة الروم وشتا بأرضهم حتى بلغ غزا القسطنطينية فيما زعم ، وأنكر ذلك قوم من أهل الأخبار وقالوا : لم يشت الواقدي بسر بأرض الروم قط .
( عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر ، وكان عمل عليها وفيها مات لعمر أربع سنين ، ولعثمان أربع سنين إلا شهرين ، ولمعاوية سنتين إلا شهرا .
وفيها ولى معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص مصر فوليها نحوا من سنتين .
محمد بن مسلمة بالمدينة في صفر ، وصلى عليه وفيها مات ، وعمره سبع وسبعون سنة ) . مروان بن الحكم
ذكر مقتل المستورد الخارجي
وفيها قتل المستورد بن علفة التيمي تيم الرباب ، وقد ذكر سنة اثنتين وأربعين : تحرك الخوارج وبيعتهم له ( ومخاطبته بأمير المؤمنين ) .
[ ص: 27 ] فلما كان هذه السنة أخبره بأنهم اجتمعوا في منزل المغيرة بن شعبة حيان بن ظبيان السلمي واتعدوا للخروج غرة شعبان ، فأرسل المغيرة صاحب شرطته ، وهو قبيصة بن الدمون ، فأحاط بدار حيان هو ومن معه ، وإذا عنده معاذ بن جوين ونحو عشرين رجلا ، وثارت امرأته ، وهي أم ولد كانت له كارهة ، فأخذت سيوفهم فألقتها تحت الفراش ، وقاموا ليأخذوا سيوفهم فلم يجدوها فاستسلموا ، فانطلق بهم إلى المغيرة فحبسهم بعد أن قررهم فلم يعترفوا بشيء ، وذكروا أنهم اجتمعوا لقراءة القرآن ، ولم يزالوا في السجن نحو سنة ، وسمع إخوانهم فحذروا ، وخرج صاحبهم المستورد فنزل الحيرة ، واختلف الخوارج إليه ، فرآهم حجار بن أبجر ، فسألوه أن يكتم عليهم ليلتهم تلك ، فقال لهم : سأكتم عليكم الدهر ، فخافوه أن يذكر حالهم للمغيرة ، فتحولوا إلى دار سليم بن محدوج العبدي ، وكان صهرا للمستورد ولم يذكر حجار من أخبارهم شيئا .
وبلغ المغيرة خبرهم وأنهم عازمون على الخروج تلك الأيام ، فقام في الناس فحمد الله ثم قال : لقد علمتم أني لم أزل أحب لجماعتهم العافية وأكف عنكم الأذى ، وخشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم ، ( وقد خشيت أن لا نجد بدا من أن يؤخذ ) الحليم التقي بذنب الجاهل السفيه ، فكفوا عنها سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم ، وقد بلغنا أن رجالا يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق ( والنفاق ) والخلاف ، وايم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب إلا أهلكتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم !
فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال : أيها الأمير أعلمنا بهؤلاء القوم ، فإن كانوا منا كفيناكهم ، وإن كانوا غيرنا أمرت أهل الطاعة فأتاك كل قبيلة بسفهائهم . فقال : ما سمي لي أحد باسمه . فقال معقل : أنا أكفيك قومي فليكفك كل رئيس قومه . فأحضر المغيرة الرؤساء وقال لهم : ليكفني كل رجل منكم قومه وإلا فوالله لأتحولن عما تعرفون إلى ما تنكرون ، وعما تحبون إلى ما تكرهون .
فرجعوا إلى قومهم فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على كل من يريد أن يهيج الفتنة ، وجاء إلى صعصعة بن صوحان عبد القيس ، وكان قد علم بمنزل حيان في دار سليم ، ولكنه كره أن يؤخذ من عشيرته على فراقه لأهل الشام وبغضه لرأيهم ، ( وكره مساءة أهل بيت من قومه ) ، فقام فيهم فقال :
أيها الناس ، إن الله وله الحمد لما قسم [ ص: 28 ] الفضل خصكم بأحسن القسم فأجبتم إلى دين الله الذي اختاره لنفسه وارتضاه لملائكته ورسله ، ثم أقمتم حتى قبض الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم اختلف الناس بعده فثبتت طائفة وارتدت طائفة وأدهنت طائفة ، وتربصت طائفة ، فلزمتم دين الله إيمانا به وبرسوله وقاتلتم المرتدين حتى قام الدين وأهلك الله الظالمين ، ولم يزل الله يزيدكم بذلك خيرا حتى اختلفت الأمة بينها فقالت طائفة : نريد طلحة والزبير وعائشة ، وقالت طائفة : نريد أهل المغرب ، وقالت طائفة : نريد عبد الله بن وهب الراسبي ، وقلتم أنتم : لا نريد إلا أهل بيت نبينا الذين ابتدأنا الله - عز وجل - من قبلهم بالكرامة تسديدا من الله - عز وجل - لكم وتوفيقا ، فلم تزالوا على الحق لازمين له آخذين به حتى أهلك الله بكم وبمن كان على مثل هديكم الناكثين يوم الجمل ، والمارقين يوم النهر ، وسكت عن ذكر أهل الشام لأن السلطان لهم ، فلا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم من هذه المارقة الخاطئة الذين فارقوا إمامنا واستحلوا دماءنا وشهدوا علينا بالكفر ، فإياكم أن تؤووهم في دوركم أو تكتموا عليهم شيئا ، فإنه لا ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة منكم ، وقد ذكر لي أن بعضهم في جانب من الحي ، وأنا باحث عن ذلك ، فإن يك حقا تقربت إلى الله بدمائهم ، فإن دماءهم حلال !
وقال : يا معشر عبد القيس إن ولاتنا هؤلاء أعرف شيء بكم وبرأيكم ، فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلا ، فإنهم أسرع شيء إليكم وإلى مثلكم . ثم جلس وكل قوم قال : لعنهم الله وبرئ منهم ، لا نؤويهم ، ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عليهم ، غير سليم بن محدوج فإنه لم يقل شيئا ورجع كئيبا يكره أن يخرج أصحابه من داره فيلوموه ، ويكره أن يؤخذوا في داره فيهلكوا ويهلك معهم .
وجاء أصحاب المستورد إليه فأعلموه بما قام به المغيرة في الناس وبما قام به رءوسهم فيهم . فسأل ابن محدوج عما قام به صعصعة في عبد القيس فأخبره ، وقال : كرهت أن أعلمكم فتظنوا أنه ثقل علي مكانكم . فقال له : قد أكرمت المثوى وأحسنت ، ونحن مرتحلون عنك .
وبلغ الخبر الذين في محبس المغيرة من الخوارج فقال معاذ بن جوين بن حصين في ذلك :
[ ص: 29 ]
ألا أيها الشارون قد حان لامرئ شرى نفسه لله أن يترحلا أقمتم بدار الخاطئين جهالة
وكل امرئ منكم يصاد ليقتلا فشدوا على القوم العداة فإنما
أقامتكم للذبح رأيا مضللا ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي
إذا ذكرت كانت أبر وأعدلا فيا ليتني فيكم على ظهر سابح
شديد القصيرى دارعا غير أعزلا ويا ليتني فيكم العادي عدوكم
فيسقيني كأس المنية أولا يعز علي أن تخافوا وتطردوا
ولما أجرد في المحلين منصلا ولما يفرق جمعهم كل ماجد
إذا قلت قد ولى وأدبر أقبلا مشيحا بنصل السيف في حمس الوغى
يرى الصبر في بعض المواطن أمثلا وعز علي أن تصابوا وتنقصوا
وأصبح ذا بث أسيرا مكبلا ولو أنني فيكم وقد قصدوا لكم
أثرت إذا بين الفريقين قسطلا فيا رب جمع قد فللت وغارة
شهدت وقرن قد تركت مجدلا
وأرسل المستورد إلى أصحابه فقال لهم : اخرجوا من هذه القبيلة ، واتعدوا سوراء . فخرجوا إليها متقطعين ، فاجتمعوا بها ثلاثمائة رجل وساروا إلى الصراة ، فسمع خبرهم فدعا رؤساء الناس فاستشارهم فيمن يرسله إليهم ، فقال له المغيرة بن شعبة : كلنا لهم عدو ولرأيهم مبغض وبطاعتك مستمسك ، فأينا شئت سار إليهم . وقال له عدي بن حاتم معقل بن قيس : إنك لا تبعث إليهم أحدا ممن ترى حولك إلا رأيته سامعا مطيعا ولهم مفارقا ولهلاكهم محبا ، ولا أرى أن تبعث إليهم أحدا من الناس أعدى لهم مني ، فابعثني إليهم ، فأنا أكفيكهم بإذن الله تعالى . فقال : اخرج على اسم الله ! فجهز معه ثلاثة آلاف . وقال المغيرة لصاحب شرطته : الصق بمعقل شيعة علي ؛ [ ص: 30 ] فإنه كان من رؤساء أصحابه :
فإذا اجتمعوا استأنس بعضهم ببعض وهم أشد استحلالا لدماء هذه المارقة وأجرأ عليهم من غيرهم ، فقد قاتلوهم قبل هذه المرة . وقال له نحوا من قول صعصعة بن صوحان معقل . فقال له المغيرة : اجلس فإنما أنت خطيب . فأحفظه ذلك .
وإنما قال له ذلك لأنه بلغه أنه يعيب ويكثر ذكر عثمان بن عفان علي ويفضله ، وكان المغيرة دعاه وقال له : إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان ، وإياك أن يبلغني أنك تظهر شيئا من فضل علي ، فأنا أعلم بذلك منك ، ولكن هذا السلطان قد ظهر وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس فنحن ندع شيئا كثيرا مما أمرنا به ، ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بدا ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا ، فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك في منازلكم سرا ، وأما علانية في المسجد فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا . فكان يقول له : نعم ، ثم يبلغه عنه أنه فعل ذلك ، فحقد عليه المغيرة فأجابه بهذا الجواب ، فقال له صعصعة : وما أنا إلا خطيب فقط ! قال : أجل . فقال : والله إني للخطيب الصليب الرئيس ، أما والله لو شهدتني يوم الجمل حيث اختلفت القنا فشئون تفرى وهامة تختلى لعلمت أني الليث النهد . فقال : حسبك ، لعمري لقد أوتيت لسانا فصيحا .
وخرج معقل ومعه ثلاثة آلاف فارس نقاوة الشيعة وسار إلى سوراء ولحقه أصحابه .
وأما الخوارج فإنهم ساروا إلى بهرسير وأرادوا العبور إلى المدينة العتيقة التي فيها منازل كسرى ، فمنعهم سماك بن عبيد الأزدي العبسي ، وكان عاملا عليها ، فكتب إليه المستورد يدعوه إلى البراءة من عثمان وعلي وأن يتولاه وأصحابه . فقال سماك : بئس الشيخ أنا إذا ! وأعاد الجواب على المستورد يدعوه إلى الجماعة وأن يأخذ له الأمان ، فلم يجب وأقام بالمدائن ثلاثة أيام ، ثم بلغه مسير معقل إليهم فجمعهم المستورد وقال لهم : إن المغيرة قد بعث إليكم معقل بن قيس وهو من السبئية المفترين الكاذبين ، فأشيروا علي برأيكم . فقال بعضهم : خرجنا نريد الله والجهاد وقد جاءونا فأين نذهب بل نقيم حتى يحكم الله بيننا . وقال بعضهم : بل نتنحى ندعو الناس ، [ ص: 31 ] ونحتج عليهم بالدعاء . فقال لهم : لا أرى أن نقيم حتى يأتونا وهم مستريحون ، بل أرى أن نسير بين أيديهم فيخرجوا في طلبنا فينقطعوا ويتبددوا على تلك الحال .
فساروا فعبروا بجرجرايا ، ومضوا إلى أرض جوخى ثم بلغوا المذار فأقاموا بها .
وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم ، فسأل كيف صنع المغيرة فأخبر بفعله ، فاستدعى شريك بن الأعور الحارثي ، وكان من شيعة علي ، فقال له : اخرج إلى هذه المارقة . ففعل . وانتخب معه ثلاثة آلاف فارس من الشيعة ، وكان أكثرهم من ربيعة ، وسار بهم إلى المذار .
وأما معقل بن قيس فسار إلى المدائن حتى بلغها ، فبلغه رحيلهم فشق ذلك على الناس ، فقال لهم معقل :
إنهم ساروا لتتبعوهم وتتبددوا وتنقطعوا فتلحقوهم وقد تعبتم ، وإنه لا يصيبكم شيء من ذلك وقد أصابهم مثل ذلك . وسار في أثارهم وقدم بين يديه أبا الرواغ الشاكري في ثلاثمائة فارس ، فتبعهم أبو الرواغ حتى لحقهم بالمذار ، فاستشار أصحابه في قتالهم قبل قدوم معقل ، فقال بعضهم : لا تفعل ، وقال بعضهم :
بل نقاتلهم . فقال لهم : إن معقلا أمرني أن لا أقاتلهم . فقالوا له : ينبغي أن تكون قريبا منه حتى يأتي معقل ، وكان ذلك عند المساء . فباتوا يتحارسون حتى أصبحوا ، فلما ارتفع النهار خرجت الخوارج إليهم ، وكانوا أيضا ثلاثمائة ، وحملوا عليهم ، فانهزم أصحاب أبي الرواغ ساعة ثم صاح بهم أبو الرواغ : الكرة الكرة ! وحمل ومعه أصحابه ، فلما دنوا من الخوارج عادوا منهزمين ، إلا أنهم لم يقتل منهم أحد ، فصاح بهم أبو الرواغ أيضا :
ثكلتكم أمهاتكم ! ارجعوا بنا نكن قريبا منهم لا نفارقهم حتى يقدم علينا أميرنا ، وما أقبح بنا أن نرجع إلى الجيش منهزمين من عدونا ! فقال له بعض أصحابه : إن الله لا يستحي من الحق ، قد والله هزمونا . فقال له : لا أكثر الله فينا مثلك ، إنا ما لم نفارق المعركة فلم نهزم ، ومتى عطفنا عليهم وكنا قريبا منهم فنحن على حال حسنة ، فقفوا قريبا منهم فإن أتوكم وعجزتم عنهم فتأخروا قليلا ، فإذا حملوا عليكم وعجزتم عن [ ص: 32 ] قتالهم فانحازوا على حامية ، فإذا رجعوا عنكم فاعطفوا عليهم وكونوا قريبا منهم ، فإن الجيش يأتيكم عن ساعة .
فجعلت الخوارج كلما حملت عليهم انحازوا عنهم ، فإذا عاد الخوارج رجع أبو الرواغ في آثارهم ، فلم يزالوا كذلك إلى وقت الظهر ، فنزل الطائفتان يصلون ثم أقاموا إلى العصر ، وكان أهل القرى والسيارة قد أخبروا معقلا بالتقاء الخوارج وأصحابه ، وأن الخوارج تطرد أصحابه بين أيديهم ، فإذا رجعوا عاد أصحابه خلفهم . فقال معقل : إن كان ظني في أبي الرواغ صادقا لا يأتيكم منهزما أبدا . ثم أسرع السير في سبعمائة من أهل القوة واستخلف محرز بن شهاب التميمي على ضعفة الناس ، فلما أشرفوا على أبي الرواغ قال لأصحابه : هذه غبرة فتقدموا بنا إلى عدونا حتى لا يرانا أصحابنا ، أنا تنحينا عنهم وهبناهم . فتقدم حتى وقف مقابل الخوارج ولحقهم معقل ، فلما دنا منهم غربت الشمس فصلى بأصحابه وصلى أبو الرواغ بأصحابه وصلى الخوارج أيضا ، وقال أبو الرواغ لمعقل : إن لهم شدات منكرات فلا تلها بنفسك ولكن قف وراء الناس تكون ردءا لهم . فقال : نعم ما رأيت .
فبينما هو يخاطبه حملت الخوارج عليهم فانهزم عامة أصحاب معقل وثبت هو ، فنزل إلى الأرض ومعه أبو الرواغ في نحو مائتي رجل ، فلما غشيهم المستورد استقبلوه بالرماح والسيوف ، فانهزمت خيل معقل ساعة ، ثم ناداهم مسكين بن عامر ، وكان شجاعا : أين الفرار وقد نزل أميركم ، ألا تستحيون ؟ ثم رجع ورجعت معه خيل عظيمة ومعقل بن قيس يقاتل الخوارج بمن معه ، فلم يزل يقاتلهم حتى ردهم إلى البيوت ، ثم لم يلبثوا إلا قليلا حتى جاءهم محرز بن شهاب فيمن معه ، فجعلهم معقل ميمنة وميسرة وقال لهم : لا تبرحوا حتى تصبحوا ونثور إليهم .
ووقف الناس بعضهم مقابل بعض فبينما هم متوافقون أتى الخوارج عين لهم فأخبرهم أن شريك بن الأعور قد أقبل إليهم من البصرة في ثلاثة آلاف .
فقال المستورد لأصحابه : لا أرى أن نقيم لهؤلاء جميعا ، ولكني أرى أن نرجع إلى الوجه الذي جئنا منه ، فإن أهل البصرة لا يتبعوننا إلى أرض الكوفة فيهون علينا ( قتال ) أهل الكوفة . ثم أمرهم بالنزول ليريحوا دوابهم ساعة ، ففعلوا ، ثم دخلوا القرية وأخذوا منها من دلهم على الطريق الذي أقبلوا منه وعادوا راجعين .
[ ص: 33 ] وأما معقل فإنه بعث من يأتيه بخبرهم حين لم ير سوادهم ، فعاد إليه الخبر أنهم قد ساروا ، فخاف أن تكون مكيدة وخاف البيات فاحتاط هو وأصحابه وتحارسوا إلى الصباح ، فلما أصبحوا أتاهم من أخبرهم بمسيرهم ، وجاء شريك بن الأعور فيمن معه فلقي معقلا فتساءلا ساعة وأخبره معقل بخبرهم ، فدعا شريك أصحابه إلى المسير مع معقل ، فلم يجيبوه ، فاعتذر إلى معقل بخلاف أصحابه ، وكان صديقا له يجمعهما رأي الشيعة ، ودعا معقل أبا الرواغ وأمره باتباعهم ، فقال له : زدني مثل الذين كانوا معي ليكون أقوى لي إن أرادوا مناجزتي . فبعث معه ستمائة فارس ، فساروا سراعا حتى أدركوا الخوارج بجرجرايا وقد نزلوا فنزل بهم أبو الرواغ مع طلوع الشمس ، فلما رأوهم قالوا : إن قتال هؤلاء أيسر من قتال من يأتي بعدهم ، فحملوا على أبي الرواغ وأصحابه حملة صادقة ، فانهزم أصحابه وثبت في مائة فارس ، فقاتلهم طويلا وهو يقول :
إن الفتى كل الفتى من لم يهل إذا الجبان حاد عن وقع الأسل
قد علمت أني إذا البأس نزل أروع يوم الهيج مقدام بطل
ثم عطف أصحابه من كل جانب ، فصدقوهم القتال حتى أعادوهم إلى مكانهم ، فلما رأى المستورد ذلك علم أنهم إن أتاهم معقل ومن معه هلكوا ، فمضى هو وأصحابه فعبروا دجلة ووقفوا في أرض بهرسير وتبعهم أبو الرواغ حتى نزل بهم بساباط ، فلما نزل بهم قال المستورد لأصحابه : إن هؤلاء هم حماة أصحاب معقل وفرسانه ، ولو علمت أني أسبقهم إليه بساعة لسرت إليه فواقعته . ثم أمر من يسأل عن معقل ، فسألوا بعض من على الطريق فأخبروهم أنه نزل ديلمايا وبينهم ثلاثة فراسخ ، فلما أخبر المستورد ذلك ركب وركب أصحابه وأقبل حتى انتهى إلى جسر ساباط ، وهو جسر نهر ملك ، وهو من جانبه الذي يلي الكوفة ، وأبو الرواغ من جانب المدائن ، فقطع المستورد الجسر ، ولما رآهم أبو الرواغ قد ركبوا عبى أصحابه واعتزل إلى صحراء بين المدائن وساباط ليكون القتال بها ووقف ينتظرهم ، فلما قطع المستورد الجسر سار إلى ديلمايا نحو معقل ليوقع به ، فانتهى إليه وأصحابه متفرقون عنه وهو يريد الرحيل وقد تقدم بعض أصحابه ، [ ص: 34 ] فلما رآهم معقل نصب رايته ونادى :
يا عباد الله الأرض الأرض ! فنزل معه نحو مائتي رجل ، فحملت الخوارج عليهم فاستقبلوهم بالرماح جثاة على الركب فلم يقدروا عليهم فتركوهم وعدلوا إلى خيولهم فحالوا بينهم وبينها وقطعوا أعنتها ، فذهبت في كل جانب ، ثم مال على المتفرقين من أصحاب معقل ففرقوا بينهم ، ثم رجعوا إلى معقل وأصحابه وهم على الركب فحملوا عليهم ، فلم يتجلجلوا ، فحملوا أخرى فلم يقدروا عليهم ، فقال المستورد لأصحابه : لينزل نصفكم ويبقى نصفكم على الخيل . ففعلوا واشتد الحال على أصحاب معقل وأشرفوا على الهلاك .
فبينما هم كذلك إذ أقبل أبو الرواغ عليهم فيمن معه . وكان سبب عوده إليهم أنه أقام بمكانه ينتظرهم ، فلما أبطأوا عليه أرسل من يأتيه بخبرهم ، فرأوا الجسر مقطوعا ففرحوا ظنا منهم أن الخوارج فعلوا ذلك لهم ، فرجعوا إلى أبي الرواغ فأخبروه أنهم لم يروهم وأن الجسر قد قطعوه هيبة لهم .
فقال لهم أبو الرواغ : لعمري ما فعلوا هذا إلا مكيدة ، وما أراهم إلا وقد سبقوكم إلى معقل حيث رأوا فرسان أصحابه معي ، وقد قطعوا الجسر ليشغلوكم به عن لحاقهم ، فالنجاء النجاء في الطلب .
ثم أمر أهل القرية فعقدوا الجسر وعبر عليه واتبع الخوارج ، فلقيه أوائل الناس منهزمين ، فصاح بهم : إلي إلي ! فرجعوا إليه وأخبروه الخبر وأنهم تركوا معقلا يقاتلهم وما يظنونه إلا قتيلا . فجد في السير ورد معه كل من لقيه من المنهزمين ، فانتهى إلى العسكر فرأى راية معقل منصوبة والناس يقتتلون ، فحمل أبو الرواغ ومن معه على الخوارج فأزالوهم غير بعيد ، ووصل أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو متقدم يحرض أصحابه ، فشدوا على الخوارج شدة منكرة ، ونزل المستورد ومن معه من الخوارج ونزل أصحاب معقل أيضا ثم اقتتلوا طويلا من النهار بالسيوف أشد قتال .
ثم إن المستورد نادى معقلا ليبرز إليه ، فبرز إليه ، فمنعه أصحابه ، فلم يقبل منهم ، وكان معه سيفه ومع المستورد رمحه ، فقال أصحاب معقل : خذ رمحك فأبى وأقبل على المستورد ، فطعنه المستورد برمحه فخرج السنان من ظهره ، وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد فضربه بالسيف فخالط دماغه فوقع المستورد ميتا ومات معقل أيضا .
وكان معقل قد قال : إن قتلت فأميركم عمرو بن شهاب التميمي .
فلما [ ص: 35 ] قتل أخذ الراية عمرو ثم حمل في الناس على الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم غير خمسة أو ستة .
وقال : كان ابن الكلبي المستورد من تميم ثم من بني رياح ، واحتج بقول جرير :
ومنا فتى الفتيان والجود معقل ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
يعني هذه الوقعة .