[ ص: 118 ]   589 
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة 
ذكر وفاة  صلاح الدين  وبعض سيرته  
في هذه السنة ، في صفر ، توفي   صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي  ، صاحب مصر  والشام  والجزيرة  وغيرها من البلاد ، بدمشق  ، ومولده بتكريت  ، وقد ذكرنا سبب انتقالهم منها ، وملكهم مصر  سنة أربع وستين وخمسمائة . 
وكان سبب مرضه أن خرج يتلقى الحاج ، فعاد ، ومرض من يومه مرضا حادا ، بقي به ثمانية أيام وتوفي ، رحمه الله . 
وكان قبل مرضه قد أحضر ولده  الأفضل عليا  وأخاه   الملك العادل أبا بكر  ، واستشارهما فيما يفعل ، وقال : قد تفرغنا من الفرنج  ، وليس لنا في هذه البلاد شاغل فأي جهة نقصد ؟ فأشار عليه أخوه  العادل  بقصد خلاط  ، لأنه كان قد وعده ، إذا أخذها ، أن يسلمها إليه . 
وأشار [ عليه ] ولده  الأفضل  بقصد بلد الروم  التي بيد أولاد  قلج أرسلان  ، وقال : هي أكثر بلادا وعسكرا ومالا ، وأسرع مأخذا ، وهي أيضا طريق الفرنج  إذا خرجوا على البر ، فإذا ملكناها منعناهم من العبور فيها . 
فقال : كلاكما مقصر ناقص الهمة ، بل أقصد أنا بلد الروم  ، وقال لأخيه : تأخذ أنت بعض أولادي وبعض العسكر وتقصد خلاط  ، فإذا فرغت أنا من بلد الروم  جئت إليكم ، وندخل منها أذربيجان  ، ونتصل ببلاد العجم ، فما فيها من يمنع عنها . 
ثم أذن لأخيه  العادل  في المضي إلى الكرك  ، وكان له ، وقال له : تجهز واحضر لتسير ، فلما سار إلى الكرك  مرض  صلاح الدين  ، وتوفي قبل عوده . 
 [ ص: 119 ] وكان ، رحمه الله كريما ، حليما ، حسن الأخلاق ، متواضعا ، صبورا على ما يكره ، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه ، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه . 
وبلغني أنه كان يوما جالسا وعنده جماعة ، فرمى بعض المماليك بعضا بسرموز فأخطأته ، ووصلت إلى  صلاح الدين  فأخطأته ، ووقعت بالقرب منه ، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها . 
وطلب مرة الماء فلم يحضر ، وعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرات فلم يحضر ، فقال : يا أصحابنا ، والله قد قتلني العطش ! فأحضر الماء فشربه ولم ينكر التواني في إحضاره . 
وكان مرة قد مرض مرضا شديدا أرجف عليه بالموت ، فلما برئ منه ، وأدخل الحمام كان الماء حارا ، فطلب ماء باردا ، فأحضره الذي يخدمه ، فسقط من الماء شيء على الأرض ، فناله منه شيء ، فتألم له لضعفه . 
ثم طلب البارد أيضا فأحضر ، فلما قاربه سقطت الطاسة على الأرض ، فوقع الماء جميعه عليه ، فكاد يهلك ، فلم يزد على أن قال للغلام : إن كنت تريد قتلي ، فعرفني ! فاعتذر إليه ، فسكت عنه . 
وأما كرمه ، فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه ، ويكفي دليلا على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري ، وأربعين درهما ناصرية . 
وبلغني أنه أخرج في مدة مقامه كل عكا  قبالة الفرنج  ثمانية عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال ، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت الحصر ، ولما انقرضت الدولة العلوية بمصر  أخذ من ذخائرهم من سائر الأنواع ما يفوت الإحصاء ، ففرقه جميعه . 
وأما تواضعه ، فإنه كان ظاهرا لم يتكبر على أحد من أصحابه ، وكان يعيب الملوك المتكبرين بذلك ، وكان يحضر عنده الفقراء والصوفية  ويعمل لهم السماع ، فإذا قام أحدهم لرقص أو سماع يقوم له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير . 
ولم يلبس شيئا مما ينكره الشرع ، وكان عنده علم ومعرفة ، وسمع الحديث وأسمعه ، وبالجملة كان نادرا في عصره ، كثير المحاسن والأفعال الجميلة ، عظيم   [ ص: 120 ] الجهاد في الكفار ، وفتوحه تدل على ذلك ، وخلف سبعة عشر ولدا ذكرا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					